قد يتجرأ البعض على انتهاك حرمة النفس؛ لذا فإن الشريعة الإسلامية قررت مجموعة من الأحكام والعقوبات كضمانات تكفل عدم الاعتداء على حياة الإنسان؛ حتى يستطيع أن يمارس نشاطه بحرية تامة بدون إعاقة أو ضرر منها:
الحمد الذي حكم فأحكم، وحلَّل وحرَّم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، مَهَّد قواعد الدين في كتابه المحكم، وأشهد أن نبينا وإمامنا سيدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، خير من قام ببيان شرع الله وعلَّم، صلَّى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته وسلم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا معشر المسلمين، خلق الله تعالى الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وسوَّاه في أحسن صورة، وأسجد له ملائكته، وسخر له السماوات وما فيها، والأرض وما عليها، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى، وأرسل إليه الرسل، وأنزل الكتب ليهتدي على درب الحياة، وليرسم حياته وفق ما أراد الله.
وشريعة الإسلام شريعة ممتدة طولًا وعرضًا وعمقًا؛ أما طولًا فإنها ممتدة لكل الأزمان إلى قيام الساعة، وأما عرضًا فلكونها رسالة عامة لكل العاملين، وأما عمقًا فلأنها لم تترك شأنًا من شؤون المعاش أو المعاد إلا ولها فيه بيان، والشريعة الإسلامية تدور أحكامها حول حماية وحفظ خمسة أمور، هي أمهات لكل الأحكام الفرعية، وتُسمى بالضروريات الخمس؛ وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وقد اهتم الدين الإسلامي الحنيف بحفظ النفس البشرية كما لم يهتم بذلك دين سماوي قبله، ولا فرقة أو مذهب أو قانون بعده، بل إن الحياة البشرية لم تشهد تشريعًا وضع من الأحكام وشرع من الوسائل ما يحفظ النفس الإنسانية كما فعلت الشريعة، والحقيقة أن الوسائل والتشريعات الإسلامية التي حفظ الإسلام من خلالها النفس الإنسانية منها ما هو وقائي يهدف إلى منع وقوع الأذى بالنفس، ومنها ما هو علاجي يهدف إلى علاج آثار الجناية على هذه النفس، بما يعود على الأنفس الأخرى التي ما زالت على قيد الحياة بالحفظ، وتعتبر هذه الوسائل هي الأكثر في الشريعة الإسلامية، وذلك سدًّا لجميع الطرق التي قد تتسبب في إلحاق الأذى بالنفس، بدءًا بالإضرار بها وانتهاءً بإزهاقها وإتلافها، وتشريعات الإسلام لحفظ النفس كثيرة ومتعددة ومتنوعة، أحاول في هذه الدقائق أن أتعرض لبعضها بحسب ما يفتح الله عليَّ، فمن أهم هذه الوسائل والتدابير:
تحريم الجناية على النفس: قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، وقال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]، وقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 8، 9]، وقال: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. قال الإمام البيهقي: يَعْنِي وَلَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، ثم بيَّن رحمه الله أن هذا المنع من رحمة الله بعباده، حيث ينعمون بالحياة الدنيا، ويكسبون منها الخير المؤدي إلى النعيم المقيم.
ويدخل في هذا النهي قتل الإنسان لنفسه؛ لأن الله هو واهب الحياة ومالكها، فالإنسان لم يهب الحياة لنفسه ولا لغيره ولا يملكها؛ ومن ثم فلا يحق له العدوان عليها، وكذا تعريض نفسه للمهالك، قال العلامة السعدي رحمه الله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسه، ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك.
♦ وإذا انتقلنا إلى السنة النبوية الشريفة، فإن الأحاديث الصحيحة التي تحذر وتنذر من اقتراف جريمة إزهاق النفس أكثر من أن تذكر في هذا المقام، فبينما اعتبرت بعض الأحاديث القتل بغير حق من الموبقات وأكبر الكبائر، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ…»؛ (صحيح البخاري).
وأشارت أحاديث أخرى إلى هول وعظم جريمة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وذلك من خلال التأكيد على أن الفسحة في الدين محصورة بمن لم يصب دمًا حرامًا، فقد ورد في الحديث الصحيح قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»؛ (صحيح البخاري).
وقد ورد في شرح الحديث في فتح الباري أن المقصود من الفسحة في الدين الواردة في الحديث: سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت؛ لأنها لا تفي بوزره، كما ورد في شرح ابن بطال قول ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأمُورِ الَّتِي لا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ.
ومن الوسائل كذلك: التحذير من العدوان على النفس بما هو أقل من القتل؛ فقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ»؛ (مسلم).
وفي حديث آخر عن عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا»؛ (البخاري) وذلك سدًّا للذريعة المفضية إلى القتل أو الجرح أو التخويف، ودفعًا للفتنة المتوقعة.
قال النووي: فيه تأكيد حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن كان أخاه لأبيه وأمه» مبالغةً في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواء من يتّهم فيه ومن لا يتّهم، وسواء كان هذا هزلًا ولعبًا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال؛ ولأنه قد يسبقه السلاح كما صرَّح به في الرواية الأخرى، ولعن الملائكة له يدلُّ على أنه حرام؛ (شرح صحيح مسلم).
كما نهى عن قتل المعاهَد من غير المسلمين، وجعل هذه الفعلة جريمة تعظم عقوبتها؛ فعن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قتل نفسًا معاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا»؛ (البخاري).
ومن الوسائل كذلك: تحريم مجرد نية القتل، فمن نوى قتل نفس مجرد نية استحق عذاب الله؛ فقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟- أي ما ذنب المقتول؟- قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه».
كذلك تحريم الانتحار والوعيد الشديد على ذلك: وفي ذلك حفظ للنفس من اعتداء صاحبها؛ جاء في الحديث الصحيح عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِى يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا»؛ (صحيح مسلم).
وتحريم مجرد تمني الموت وهو أقل من الانتحار بكثير، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا محالة متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خير لي، وتوفني ما كانت الوفاة خير لي».
♦ أيها الكرماء الأجِلاء عباد الله؛ ولم يتوقف حرص الإسلام على حفظ النفس على ما سبق بل تعداها إلى غير ذلك مما يعتبر رخصة ومنحة إلهية في بعض الحالات الاستثنائية، فقد أباح الإسلام النطق بكلمة الكفر عند الإكراه بالقتل، مع اشتراط أن يبقى القلب مطمئنًّا بالإيمان، وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
ولم تهتم الشريعة الإسلامية بالنفْس البشرية بعد خروجها للحياة فقط، بل أيضًا اهتمَّت بالجنين في بطن أمه وقبل ولادته كإنسان في حالة تعرُّض أمِّه لأذى، أو للضرب المُفضي إلى موت الجنين في بطنِها احترامًا لآدميتِه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأتين من هُذَيل رمت إحداهما الأُخرى فطرحت جنينَها، فقَضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بغرة عبد أو أَمَة؛ (البخاري ومسلم).
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن الجنين إذا مات بسبب الجناية، وجبَت فيه الغرة مطلقًا، سواء انفصل عن أمه وخرَج ميتًا أو مات في بطنها، أما إذا خرج حيًّا ثم مات، ففيه الدية كاملة. فالحياة الإنسانية الكاملة مَصونة في الإسلام، لا يجوز التعرُّض لها بالقتل أو بالجرح، أو بأي شكل من أشكال الاعتداء، سواء كان الاعتداء على بدنه أو على نفسه أو مشاعره، أو بازدرائه أو الانتقاص من قيمته الإنسانية ولم يكرم الإسلام النفس البشرية في كل أطوار حياة الإنسان وقبل ولادته فقط؛ إنما امتد هذا التكريم لما بعد الموت أيضًا؛ حيث أمرت الشريعة الإسلامية بدفْن جُثث الموتى بعد أن يتوفاهم الله عز وجل؛ فعن عمر بن يعلى بن مرة عن أبيه قال: سافرتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرَّة فما رأيتُه مرَّ بجيفة إنسان إلا أمَرَ بدفنِه، لا يَسأل أمُسلم هو أم كافر؛ (أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم).
♦ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في غزوة بدر أن يقوموا بدفن جثث قَتلى المشركين من قريش في القليب، وهي بئر مهجورة لم تُطْوَ، فعن عائشة رضي الله عنه قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقَتلى أن يُطرحوا في القليب، فطُرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف؛ فإنه انتفَخ في دِرعه فملأها، فذهَبوا يُحرِّكوه فتزايلَ، فأقروه وألقوا عليه ما غيَّبه من التراب والحجارة؛ (أخرجه أحمد).
ومن تكريم النفس البشرية بعد موتها: النهيُ عن التمثيل بجثث القتلى والعبث بها وتشويهها؛ فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على جيش أوصاه في خاصة نفسِه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: «اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتِلوا مَن كفَرَ بالله، اغزوا ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا»؛ (صحيح مسلم)، وعن أنسٍ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة، ويَنهى عن المُثلة؛ (البخاري).
وقد قال عمران بن حصين: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمَرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة.
حتى الكفار المحاربون، فإنا لا نمثِّل بهم بعد القتل، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم، ولا نبقر بطونهم، إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم ما فعلوا، والترك أفضل؛ كما قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 126، 127].
قيل: إنها نزلت لما مثَّل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أُحُد رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لئن أظفرني الله بهم، لأمثلنَّ بضعفَي ما مثَّلوا بنا»، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل نصبر».
♦ ومن مواقف السيرة النبوية العجيبة في هذا المقام: أن سهيل بن عمرو وقع في الأَسرِ يوم بدر وكان خطيبًا مِصْقَعًا، فقال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انزع ثنيَّتَيه السُّفليَين فيُدْلَعَ لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا بموطن أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثِّل به فيُمثِّل الله بي ولو كنتُ نبيًّا، ولعله يقوم مقامًا لا تكرهه»؛ (سيرة ابن هشام).
♦ وإليك هذا الموقف العجيب من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يدلُّ على احترام الإسلام للنفس البشرية بعد الموت: فعن قيس بن سعد وسهل بن حُنيف أنهما كانا بالقادسية فمرَّت بهما جنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض؛ أي: من أهل الذمة؟ فقالا: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّت به جنازة فقام، فقيل: إنه يهودي؟ فقال: «أليست نفسًا؟!»؛ (البخاري، ومسلم).
وهكذا رسخت شريعة الإسلام عظم حق النفس، ليس هذا فحسب، بل جعل القرآن الحفاظ على النفس من صفات عباد الرحمن الذين استوجبوا رحمة الله ودخول جنته، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68].
بل تفضلت بالجزاء الكريم لمن ابتعد عن الشرك وقتل النفس بدخول الجنة من أي باب من أبوابها شاء، فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ قَاَلَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا لَمْ يَتَنَدَّ بِدَمٍ حَرَامٍ إِلَّا دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ». وقوله: «يَتَنَدَّ»؛ أي: يصب، كما في رواية الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا».
أيها المسلمون، رأينا كيف أن الإسلام قد احترم النفس البشرية في جميع أطوار الحياة؛ بل وبعد الممات، وشرع الأحكام التي تصون لها كرامتها ورقيَّها وفضلها؛ قال الله – عز وجل-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
وبرغم كل السبل الوقائية الإسلامية السابقة – وغيرها – لحفظ النفس الإنسانية من الإتلاف والهلاك، إلا أنه قد يتجرأ البعض على انتهاك حرمة النفس؛ لذا فإن الشريعة الإسلامية قررت مجموعة من الأحكام والعقوبات كضمانات تكفل عدم الاعتداء على حياة الإنسان؛ حتى يستطيع أن يمارس نشاطه بحرية تامة بدون إعاقة أو ضرر منها أولًا:
عقوبة القصاص في الدنيا: فقد أوجبت الشريعة الإسلامية في القتل العمد القصاصَ من القاتل، وجعلته لولي المقتول بعد صدور حكم القاضي بالقتل لتنفيذه على القاتل، ولكنه ليس لهم أن يَقتلوا سوى القاتل، بخلاف ما كان يجري قبل الإسلام على أساس مبدأ الثأر؛ حيث إن تشريع القصاص مما يسدُّ ذرائع القتل، ويكبح جماح الثأر والانتقام الذي يؤدي إلى الجرائم والاعتداء على الآخرين، وبين القرآن الكريم أن في هذا القصاص حياة للناس؛ لأنه حفظ لحياة البشَر بما يشكِّله من رادع عن الاعتداءات المتكرِّرة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، ثم قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179].
وهذا القصاص عام بدون استِثناء يطبق على الجميع؛ قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، فمن قتل إنسانًا يُقتَل، ومَن فقأ عينًا فُقئت عينُه، ومَن جدَع أنفًا جُدع أنفه، ومَن كسر سِنًّا كُسرتْ سِنُّه.
♦ قال ابن كثير في تفسيره: وفي شَرْع القصاص لكم – وهو قتل القاتل- حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها؛ لأنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفَّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس، وفي الكتب المتقدمة: القتلُ أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز، كما أن قتل القاتل فقط في شريعة القصاص الإسلامية حفظ لكثير من النفوس التي كانت تُقتل في الجاهلية بغير وجه حق، من خلال تعسف أولياء المقتول في تجاوز حقهم إلى غير القاتل من أرحامه وقبيلته.
وفي سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قتَل عبْدَه قتلْناه، ومَن جدَع عبْدَه جدَعْناه»؛ (أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافَقَه الذهبي).
وعن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرَين، قيل: من فعل هذا بكِ؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سُمِّي اليهوديُّ فأومأتْ برأسِها، فأُخذَ اليهوديُّ، فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرضَّ رأسه بين حجرَين؛ (البخاري، ومسلم).
♦ وعن أنس رضي الله عنه أن الرُّبَيِّع – وهي ابنة النضر – كسرت ثنية جارية، فطلَبوا الأرش، وطلبوا العفو، فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرَهم بالقصاص. فقال أنس بن النضر: أتُكسَر ثنيةُ الرُّبَيِّعِ يا رسول الله؟ لا والذي بعثك بالحق لا تُكسَرُ ثنيَّتُها، فقال: «يا أنس، كتابُ الله القصاص»، فرضيَ القومُ وعفوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه»؛ (البخاري، ومسلم).
ثانيًا: تحريم وتجريم الحرابة وتغليظ العقوبة عليها في الدنيا والآخرة والحرابة، هي قطع الطريق على الناس لإخافتهم وترويعهم وسلب أموالهم وقتلهم، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
ثالثًا: الوعيد الشديد لكل من يعتدي على نفس الغير بالقتل، وهو ما يزجر كل من يحدث نفسه بارتكاب مثل هذا الفعل المشين. ولعل من أشد الآيات وعيدًا لمن يرتكب هذه الجريمة قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، قال ابن كثير في تفسيره: هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68].
أيها المسلمون، إن ما سبق من الوسائل والتدابير الإسلامية لحفظ النفس الإنسانية من الأذى والهلاك… خير رد على الأبواق الغربية التي تحاول الترويج منذ زمن بأن الإسلام دين عنف وإرهاب واستهتار بالدماء، بينما الحقيقة التي بات يعلمها القاصي والداني أن الإسلام خير دين يحفظ نفس الإنسان، وأن الغرب أكثر من ينتهك الحرمات والدماء، ولعل ما يجري في بلاد المسلمين خير شاهد على ذلك؛ وإن عالمنا العربي والإسلامي يئن في هذه الحقبة من الزمان من ويلات الحروب والصراعات والخلافات بين أبنائه، فسُفكت لأجل ذلك الدماء، ودُمرت المدن والقرى، وتشرد الآلاف، وأهينت كرامة الإنسان، وأصبح التوجس والخوف والحزن والقلق صفة ملازمة لكثير من أبناء هذه الأمة؛ بسبب ما آلت إليه أوضاعها..
فهنيئًا لمن خرج من الدنيا ولم يتلطخ بدم مسلم، وهنيئًا لمن خرج من الدنيا ولم يحمل مسلمًا على ظهره يأتي به يوم القيامة، هنيئًا لمن خرج من الدنيا وقد سلم المسلمون من لسانه ويده، هنيئًا لمن فارق الدنيا ولم يقترف جريمة يسفك بها دم مسلم..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار»؛ (صحيح سنن الترمذي)، فكل من أعان وساهم واشترك وأشار أو كتب أو صرح، ولو بشطر كلمة، وأثار الخلافات، وأجَّج الفتن، وشق الصف، فسُفكت لأجل ذلك الدماء؛ فهو مشارك في الجريمة، آيسٌ من رحمة الله في الدنيا والآخرة؛ إلا أن يتداركه الله بتوبة نصوح..
اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، وانصر الإسلام والمسلمين، اللهم وفقنا لما يصلح أمرنا في ديننا ودنيانا، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شَرَّ أنفسنا، وهيئ لنا أمرنا رشدًا. وصلوا وسلموا على البشير النذير كما أمركم الله في محكم التنزيل فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] وأقم الصلاة.
________________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
Source link