النبي محمد صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية ليست كالحياة في الدنيا، ولا كالحياة في الآخرة، وقد أخبرنا الله في كتابه عن موته كما مات غيره من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم
النبي محمد صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية ليست كالحياة في الدنيا، ولا كالحياة في الآخرة، وقد أخبرنا الله في كتابه عن موته كما مات غيره من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، قال الله تعالى: {{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}} [الأنبياء: 34]، وقال سبحانه: { {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}} [الزمر: 30].
▪ أما روحه صلى الله عليه وسلم فهي في أعلى عليين لكونه أفضل الخلق وسيدهم، وقد أعطاه الله الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة.
▪ والأنبياء أحياء بعد موتهم حياة خاصة لا نعلم كيفيتها، وكذلك الشهداء كما قال تعالى: {{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}} [البقرة: 154].
▪ والأصل أن الأموات لا يسمعون كلام الأحياء من بني آدم، لقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].
▪ ولم يثبت في القرآن العظيم ولا في السنة الصحيحة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع كل دعاء أو نداء من الناس، فالذي يسمع كل نداء هو الله جل جلاله الذي وسع سمعه كل صوت، وقد ورد في حديث مختلف في صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم يبلغه صلاة وسلام من يصلي ويسلم عليه فقط، ففي سنن أبي داود (2041) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)، وقد تفرد بهذا الحديث أبو صخر حميد بن زياد، وهو راو مختلف في توثيقه، وقد روى هذا الحديث عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة، والراوي عن أبي هريرة أيضا مختلف فيه، فقد قال عنه ابن حبان في كتابه مشاهير علماء الأمصار: كان رديء الحفظ، ثم هو لم يذكر سماعه من أبي هريرة، فيخشى أن يكون أرسله عنه، وليس هو من أصحاب أبي هريرة المشهورين كسعيد بن المسيب وأبي سلمة وعبد الرحمن الأعرج ومحمد بن سيرين، فهذا الحديث العجيب المتن، الغريب الإسناد تفرد به بعض الرواة المختلف في توثيقهم، فالظاهر عدم صحته، والله أعلم.
والعجب ممن يقول: لا تقبل أخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد، ثم يستدل بهذا الحديث الذي تفرد به راو مختلف في توثيقه عن راو آخر رديء الحفظ! فهذا حديث آحاد مختلف في صحته، فكيف يستدلون به على مسألة عقدية مهمة لم تذكر في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث الصحيحة؟!
ثم على القول بصحة هذا الحديث فليس بصريح أنه عليه الصلاة والسلام يسمع سلام المسلِّم عليه، بل يحتمل أنه يرد عليه إذا بلّغته الملائكة ذلك، ولو فرضنا سماعه سلام المسلِّم، فهو استثناء من الأصل كما استثني من ذلك سماع الميت لقرع نعال مشيعي جنازته كما ثبت في الحديث الصحيح، والله على كل شيء قدير.
▪ وأما بالنسبة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم والطلب منه مباشرة فهذا عين الشرك الذي بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، وقد أمر الله سبحانه بدعائه في آيات كثيرة، ونهانا عن دعاء غيره فقال: {{وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا}} ، فمن دعا صنما أو كوكبا أو دعا النبي محمدا عليه الصلاة والسلام أو دعا عيسى عليه الصلاة والسلام فقد خالف القرآن الكريم، وخالف النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال كما في الحديث الصحيح: «(إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)» .
▪️وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته فلم يكن الصحابة يفعلونه، وإنما ورد ذلك في أحاديث ضعيفة، أو ورد عن من قوله ليس حجة، وحديث الأعمى الذي توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ليرد الله عليه بصره جعله كثير من العلماء من دلائل النبوة، وفيه توسله بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وليس بعد موته، ولو ثبت – فرضا – أن صحابيا توسل بالنبي بعد موته فليس فعله حجة، ومعلوم أن بعض الصحابة قد يجتهد في مسألة ويخطئ فيها، فلا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، والثابت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يدعون الله سبحانه بأسمائه الحسنى كما أمر الله في كتابه، ولم يكونوا يتوسلون في دعائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا بغيره من الأنبياء، وحين قحط الناس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه توسلوا بدعاء العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقرابته من رسول الله، وهذا دليل على أنه يجوز التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح في حياته، وليس في القصة أنهم توسلوا في القحط بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، ولو كان ذلك جائزا لفعلوه، والخير في اتباع كتاب الله وسنة رسوله، والأخذ بسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وكل محدثة بدعة، ويجب عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، لا إلى الأهواء والآراء، ولا إلى ما أدرك الإنسان عليه الآباء والمشايخ.
▪ هذا، وإن بعض الناس يظن أن ابن تيمية رحمه الله المتوفى سنة ٧٢٨ هجرية هو أول من قال بمنع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وليس هذا بصحيح، ولو كان الأمر كذلك لكان مخطئا في رأيه، وكل عالم يصيب ويخطئ، ويعلم ويجهل، ونحن نعذر من أداه اجتهاده من العلماء والباحثين الفضلاء إلى جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا شك أنه أمر محدث، فمن المعلوم يقينا لمن له اطلاع على كتب السنة والآثار وكتب الدعوات أن الصحابة والتابعين وأتباعهم وكبار أئمة المسلمين لم يكونوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وقد صرح كثير من العلماء السابقين لابن تيمية بالمنع من التوسل في الدعاء بأحد من الخلق، وأكتفي بذكر مثال واحد عن عالم مشهور من علماء المذهب الحنفي، قال الكاساني رحمه الله المتوفى سنة ٥٨٧ هجرية وهو قبل ابن تيمية بأكثر من قرن: “يكره للرجل أن يقول في دعائه: أسألك بحق أنبيائك ورسلك، وبحق فلان؛ لأنه لا حق لأحد على الله سبحانه” ينظر: بدائع الصنائع ج٥ ص١٢٦.
وقد ذكر الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله في كتابه الأم عدة مواضع فيها أدعية مختارة ليس في شيء منها التوسل إلى الله بالنبي صلى الله عليه وسلم، ينظر مثلا: كتاب الأم ج١ ص٢٨٦ الدعاء في خطبة الاستسقاء، و ج١ ص٣٠٩ و ٣٢٣ في الدعاء للميت.
ولا شك أن أفضل الأدعية أدعية القرآن الكريم، ثم الأدعية النبوية، وليس في شيء منها التوسل بالصالحين، فعليك يا أخي المسلم بها، فقد أثنى الله على الصالحين الذين يدعونه بتلك الدعوات المباركة التي ذكرها الله في كتابه.
▪ ومن العجب أن بعضهم يزعم أنه من أتباع الأئمة الفقهاء رحمهم الله ثم يخالفهم في هذه المسألة، فيدعو الأنبياء من دون الله وهذا شرك، أو يتوسل بذواتهم، وهذا التوسل بدعة،
مع أنه مقر بأن الأئمة الأربعة لم يكونوا يدعون بذلك!
▪ ومن العجائب والعجائب جمة أنه ألف عبد الله الغماري كتابا بعنوان: إتحاف الأذكياء بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، وألف يوسف النبهاني كتاب: شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، وقد رد عليه ردا شافيا علامة العراق محمود شكري الآلوسي رحمه الله في كتابه القيم: غاية الأماني في الرد على النبهاني.
▪ وإن من أعظم الشبه التي يجوزون بها دعاء النبي عليه الصلاة والسلام أو التوسل به أنه بعد موته يسمع من دعاه، وقد تقدم أنه لا دليل على هذا الأمر، فالذي يسمع الجهر وما يخفى هو الله سبحانه، ولا يشاركه في ذلك أحد من خلقه.
▪ ومن الشبه المزخرفة قول بعضهم: النبي صلى الله عليه وسلم يستحق من التعظيم أكثر من دعائه والاستغاثة به في حياته وبعد موته، فنقول: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون بالمشروع، فهل توجبون كل تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم حتى السجود لقبره، والحلف به، والذبح باسمه؟! فلا شك أن هذه عبادات لا تجوز إلا لله وحده، وكذلك الدعاء، بل الدعاء هو العبادة، فلا ندعو إلا الله وحده لا شريك له، ومهما عظمنا الله فنحن مقصرون في تعظيمه سبحانه، وفي القيام بحقه جل جلاله، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن الغلو، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
▪ ولا شك أننا مأمورون بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بما يستحقه من التعظيم المشروع، ومن ذلك الإيمان به وطاعته ومحبته واتباعه، وكثرة الصلاة عليه، وتوقيره، ونحو ذلك مما بينه أهل العلم، وتجد تفاصيل ذلك في كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض رحمه الله، وللعلم فإن القاضي عياض لم يذكر في كتابه هذا جواز دعاء النبي عليه الصلاة والسلام أو التوسل به بعد موته، ونقل عن العلماء ما يقوله زائر قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عن أحد من العلماء التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن دعائه من دون الله، أفلا تذكرون؟!
▪ وأختم هذا الجواب بما ذكره العلامة ابن رشد الجد الأندلسي رحمه الله المتوفى سنة ٥٢٠ هجرية نقلا عن مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله: “قال مالك: أحب إلي أن يدعو الله بما في القرآن، وبما دعت الأنبياء: بيا رب”. ينظر: البيان والتحصيل ج١٦ ص٤٠٠.
اللهم ارزقنا طاعتك وطاعة رسولك، والعمل بكتابك وسنة نبيك، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، ونعوذ بك أن نشرك بك شيئا ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وألف بين قلوبنا، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته.
وكتب/ محمد بن علي بن جميل المطري
غفر الله له ولجميع المسلمين والمسلمات
٢٧ شعبان ١٤٤٣ هجرية
Source link