ليس القرب هو الغاية العليا في العلاقات، بل حسن التقدير، وما المسافة في جوهرها إلا ضربٌ رفيع من الذوق، ومقامٌ لا يبلغه إلا من عرف قدر نفسه، وقدر الآخرين…”
ليس القرب هو الغاية العليا في العلاقات، بل حسن التقدير، وما المسافة في جوهرها إلا ضربٌ رفيع من الذوق، ومقامٌ لا يبلغه إلا من عرف قدر نفسه، وقدر الآخرين، فبعض النفوس لا تتألّف إلا إذا أُعطيت فسحة، ولا تزدهر إلا إذا نُزِعت عنها أعباء التوقّع، وكُفّت عنها مطالب الحضور الدائم والشرح المتكرّر.
المسافة ليست برودًا كما يظنّ العاطفيون، ولا مكرًا كما يتوهم المتوجّسون؛ بل هي لغة الراشدين في إدارة المودّة، هي ما يجعل العلاقة تحتفظ ببهائها، حين لا تُهدر أسرارها في الازدحام، ولا تتآكل معانيها تحت ضغط الحضور الثقيل.
وليست العلاقة السوية تلك التي تُحيطك بالأسئلة ليل نهار، ولا تلك التي تراقب أنفاسك كي تُفسّرها، بل العلاقة التي تمنحك مجالًا لأن تكون، دون أن تفقد يقينك بأنها باقية.
إن الذين يبالغون في الحضور، ولو بحسن نية، يرهقون الأرواح من حيث لا يشعرون؛ تمامًا كما تفقد الزهرة بريقها إن تُركت تحت وهج الشمس بلا ظلّ، فالقلوب لا تحتاج إلى مَن يُرهقها بالعناية، بل إلى من يفهم متى يتراجع خطوة ليمنحها حريّتها، ومتى يتقدّم بخفة ليجعلها تبتسم.
وما أجمل أولئك الذين يُحسنون الحضور برفق، ويُجيدون الغياب بذوق، ويعرفون أن المودّة لا تُقاس بالكثرة، بل بالخِفّة والكرامة.
Source link