منذ حوالي ساعة
واقعنا المعاصر أحوج ما يكون إلى هذا البناء المتوازن، في زمن الغزو الفكري والإعلام المضلل، نحتاج إلى العقل المفكر الواعي، وفي زمن الماديات والشهوات..”
الحمد لله الذي أكمل لنا الدِّين، وأتمَّ علينا النعمة، وجعل قدوتنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، مَنْ سار على نهجه نجا، ومن أعرض عنه هلك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله، لقد ابتُلينا اليوم بزمان كثرت فيه الفتن، وتشعبت فيه وسائل الفساد والإفساد، من شاشات تبثُّ الشهوات ليل نهار، ومواقع تزرع الشبهات في قلوب شبابنا وأولادنا، حتى صار كثيرٌ من المسلمين يعيشون بأجسادهم بيننا، لكن عقولهم وأفكارهم رهينة لمناهج الغرب، وقلوبهم أسيرة للشهوات.
فأين الحل؟
الحل في العودة إلى مدرسة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث نجد المنهج الكامل لبناء إنسان متوازن، لا تهزه الشبهات، ولا تجرفه الشهوات؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
أيها المسلمون، الشخصية الإسلامية ليست مجرد مظهر أو شعار؛ بل هي عقل واعٍ، وروح متصلة بالله، وخلق ثابت كريم.
فالعقل الواعي يحمي صاحبه من التضليل الإعلامي، ويجعله يعرف الحق من الباطل.
والروح الموصولة بالله تعطيه طمأنينة في الأزمات، فلا ينهار أمام الشدائد، ولا يبيع دينه بعَرض من الدنيا قليل.
والخلق الكريم يحفظه من الانحراف، فيكون صادقًا أمينًا، رحيمًا بالضعيف، شجاعًا في الحق.
إن رسولنا صلى الله عليه وسلم ربَّى أصحابه على هذا البناء المتكامل، فأخرج لنا أبا بكر الصِّدِّيق في صدقه وثباته، وعمر بن الخطاب في قوته وعدله، وعثمان في حيائه وكرمه، وعليًّا في علمه وشجاعته.
فهل نعجز أن نُربِّي أبناءنا على نفس النهج؟
نحن اليوم نرى شبابًا يذوبون في التقليد الأعمى لمشاهير الإعلام، ويتفاخرون بتقليد نجوم الغناء والكرة، بينما يجهلون أسماء الصحابة والتابعين! نرى أطفالًا يقضون الساعات أمام الشاشات، ولا يعرفون من القرآن إلا القليل! فبأي شخصية سنبني مستقبل أُمَّتنا؟
فلنُرَبِّ أبناءنا وبناتنا على السُّنَّة النبوية، نُعلِّمهم الصلاة في صغرهم، نغرس فيهم الصدق والأمانة، نُربِّيهم على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى تنشأ لهم شخصيات راسخة، تواجه الإعلام المضلل بالإيمان، وتواجه الشهوات بالصبر، وتواجه الشبهات بالعلم.
إن الشخصية الإسلامية التي نحتاج إليها اليوم ليست شخصية ضعيفة هشة؛ بل شخصية مؤمنة قوية، تواجه التحديات بثبات، وتبني المجتمعات بالعلم والعمل، وتضيء العالم بسلوكها وأخلاقها.
نحتاج إلى الشخص المسلم الذي يعيش الإسلام واقعًا في دنياه، عاملًا لآخرته، مخلصًا مع نفسه، وفيًّا مع ربِّه، نافعًا لمجتمعه؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يُربِّي أصحابه صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساءً، على الإيمان والعلم والعمل، حتى صنع منهم جيلًا حمل رسالة الإسلام وفتح به الدنيا.
عباد الله، واقعنا المعاصر أحوج ما يكون إلى هذا البناء المتوازن، في زمن الغزو الفكري والإعلام المضلل، نحتاج إلى العقل المفكر الواعي، وفي زمن الماديات والشهوات، نحتاج إلى الروح المؤمنة الموصولة بالله، وفي زمن الأزمات الأخلاقية، نحتاج إلى الخلق النبوي الكريم.
إن ضعف شخصياتنا اليوم هو سبب ضعفنا أمام التحديات، ولن تقوم لنا قائمة إلا إذا ربَّيْنا أبناءنا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم فنبني فيهم العقل بالإيمان والعلم، ونُزكِّي الروح بالعبادة والذكر، ونُهذِّب الخلق بالصبر والصدق والأمانة؛ كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم.
الخطبة الثانية
إن الشخصية الإسلامية ليست شكلًا أو مظهرًا؛ بل هي تكوين متكامل يقوم على العقيدة والإيمان، والعبادة والعمل، والخلق والسلوك؛ يقول الله جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 1 – 5].
فهذه الصفات هي الأسس التي يقوم عليها بناء المسلم: عبادة، أخلاق، ضبط للنفس، وعفة للسان والجوارح.
فالشخصية الإسلامية تقوم على هذه الأركان، فأولها الإيمان والعقيدة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «يا غلام، إني أعلِّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله…»؛ (رواه الترمذي)، فهنا يربِّي النبي صلى الله عليه وسلم الصغير على التوحيد والثقة بالله، ليبني شخصية قوية مستقلة.
ثم العبادة والروحانية؛ كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، فالصلاة تبني الضمير الحي، وتصون المسلم من الانحراف. والصيام مدرسة الصبر، والزكاة تُطهِّر النفس من الشُّحِّ، والحج يربط الأمة بوحدة إيمانية عظيمة.
ثم الأخلاق والمعاملة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»؛ (رواه الترمذي)، وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»؛ (رواه البخاري ومسلم).
فالأخلاق ليست زينة إضافية؛ بل هي جزء من حقيقة الإيمان.
فلنحرص على تربية أنفسنا وأولادنا على هذا المنهج النبوي، ولنجعل بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا مصانع لصناعة الشخصية المسلمة المتزنة، حتى نواجه تحديات هذا العصر بإيمان راسخ، وخلق متين، وعلم نافع، وعمل صالح.
إن بناء الشخصية الإسلامية ليس أمرًا نظريًّا؛ بل هو واقع عملي يُترجم في حياة المسلم، عبر التزوُّد بالعلم النافع؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»؛ (متفق عليه).
وبالعمل الصالح؛ كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].
وبالأخلاق الحسنة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»؛ (رواه الترمذي).
اللهم أصلح لنا شبابنا، واحفظ أبناءنا وبناتنا من الفتن، وزكِّ نفوسنا واهدنا إلى صراطك المستقيم.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________________________________
الكاتب: د. مراد باخريصة
المصدر: الألوكة
Source link