الغسل يسنُّ لكلِّ بالغٍ حضر الجمعة من الرجال والنساء؛ لأنَّ الأحاديث التي تحثُّ على الغسل يوم الجمعة قد قيدت بالمحتلم، ومن جهةٍ أخرى قيدت بالحضور إلى الجمعة مخافة تأذِّي الناس برائحة بعضهم البعض، والله أعلم.
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه.
أمَّا بعد:
فهذا بحثٌ يتعلَّق ببعض أحكام غسل الجمعة، فنقول وبالله التوفيق:
حكم غسل الجمعة
اختلاف العلماء في حكم غسل الجمعة:
اختُلِف في حكم غسل الجمعة على ثلاثة أقوال:
فقيل: سنَّة، وهو قول الجمهور من الأحناف[1]، والمالكية[2]، والشافعية[3]، والحنابلة[4].
وقيل: واجب، وهو قول الظاهرية[5]، ورواية عن أحمد[6].
وقيل: واجب من ريحٍ كريهة، وهو مذهب ابن تيميَّة[7].
أدلَّة القائلين بسنيَّة الغسل يوم الجمعة:
• عن الحسن، عن سمرة، أنَّ النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «مَن توضَّأ للجمعة فبها ونعمتْ، ومَن اغتَسَل فالغسل أفضل»[8]؛ (صحيح لشواهده).
• عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «مَن توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيَّام، ومَن مسَّ الحصى فقد لغا»[9].
وهذا يدلُّ على أنَّ الوضوء كافٍ، وأنَّ المقتصِر عليه غيرُ آثمٍ ولا عاصٍ، وأمَّا الأمر بالغسل فمحمولٌ على الاستحباب.
• عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: أنَّ عمر بن الخطاب، بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخَل رجلٌ من المهاجرين الأوَّلين من أصحاب النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فناداه عمر: أيَّة ساعة هذه؟ قال: إنِّي شغلت، فلم أنقَلِب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أنْ توضَّأت، فقال: والوضوء أيضًا، وقد علمت أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان يأمُر بالغسل[10].
قال الشافعي: “وأمرُه بالغسل يحتَمِل معنيين: الظاهر منهما أنَّه واجب فلا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، كما لا يجزئ في طهارة الجنب غير الغسل، ويحتمل واجبٌ في الاختيار والأخلاق والنظافة”[11].
وعلى هذا الجواب عوَّل أكثر المصنفين في هذه المسألة؛ كابن خزيمة، والطبري، والطحاوي، وابن حبان، وابن عبدالبر، وهلمَّ جرًّا، وزاد بعضُهم فيه: أنَّ مَن حضَر من الصحابة وافَقوهما على ذلك، فكان إجماعًا منهم على أنَّ الغُسل ليس شرطًا في صحَّة الصلاة، وهو استدلالٌ قوي، وقد نقَل الخطَّابيُّ وغيرُه الإجماع على أنَّ صلاة الجمعة بدون الغسل مُجزِئة[12].
• عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – : «لو أنَّكم تطهَّرتم ليومكم هذا»[13].
قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لو أنَّكم تطهَّرتم ليومكم هذا»، ((لو)) للتمنِّي فلا تحتاج إلى جواب، أو للشرط والجواب محذوف تقديره “لكان حسنًا”، وقد وقَع في حديث ابن عباسٍ عند أبي داود أنَّ هذا كان مبدأ الأمر بالغسل للجمعة[14].
أدلَّة القائلين بوجوب غسل الجمعة:
• عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «إذا جاء أحدُكم الجمعة، فليغتسل»[15].
• عن أبي بكر بن المنكدر، قال: حدثني عمرو بن سليم الأنصاري، قال: أشهد على أبي سعيدٍ قال: أشهد على رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلم، وأنْ يستنَّ، وأنْ يمسَّ طيبًا إنْ وجد»، قال عمرو: “أمَّا الغسل فأشهد أنَّه واجبٌ، وأمَّا الاستنان والطيب فالله أعلم أواجبٌ هو أم لا، ولكن هكذا في الحديث”[16].
والأصل في الأمر الوجوبُ إلاَّ لقرينة.
• عن أبي هريرة، عن النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «حقُّ لله على كلِّ مسلم أنْ يغتسل في كلِّ سبعة أيَّام، يغسل رأسه وجسده»[17].
• عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلم»[18].
قال ابن دقيق العيد: ذهَب الأكثرون إلى استِحباب غسل الجمعة، وهم محتاجون إلى الاعتِذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أوَّلوا صِيغَة الأمر إلى النَّدب وصيغة الوجوب إلى التأكيد كما يُقال: إكرامك عليَّ واجبٌ، وهو تأويلٌ ضعيف إنما يُصار إليه إذا كان المعارض راجحًا على هذا الظاهر.
وأقوى ما عارَضُوا به هذا الظاهر حديث: «مَن توضَّأ يوم الجمعة فبها ونعمتْ، ومَن اغتسل فالغسل أفضل»، ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث، قال: وربما تأوَّلوه تأويلاً مستكرهًا كمَن حمل لفظ الوجوب على السقوط، انتهى[19].
أدلَّة مَن أوجَبَه على مَن به رائحة كريهة:
• عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قالت: كان الناس يَنتابُون يومَ الجمعة من مَنازِلهم والعَوالِي، فيأتون في الغبار يُصِيبهم الغبار والعَرَق فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لو أنَّكم تطهَّرتم ليومكم هذا»[20].
• عن عكرمة، أنَّ أناسًا من أهل العراق جاؤوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجبًا؟ قال: لا، ولكنَّه أطهر وخيرٌ لِمَن اغتسل، ومَن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأُخبِركم كيف بدء الغسل: كان الناس مجهودين يَلبَسون الصوف ويعمَلون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقًا مقارب السقف – إنما هو عريش – فخرَج رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – في يومٍ حارٍّ، وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارَتْ منهم رياح آذَى بذلك بعضهم بعضًا، فلمَّا وجَد رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – تلك الريح قال: «أيُّها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمسَّ أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه»، قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير ولبسوا غيرَ الصوف، وكفوا العمل ووسع مسجدهم، وذهَب بعض الذي كان يُؤذِي بعضهم بعضًا من العرق[21].
الراجِح:
والذي يَظهَر أنَّ الراجح هو قول الجمهور؛ لأنَّ الأصل في الأمر الوجوب إلاَّ لقرينةٍ صارِفة؛ وعليه فيستحب الغسل يوم الجمعة ويَتأكَّد في حقِّ مَن به عرقٌ أو ريح كريهة.
فالدليل الناهِض حديث سمرة، فلم يُخرِجه الشيخان، فالأَحْوَط للمؤمن ألاَّ يترك غسل الجمعة.
وفي الهدي النبوي الأمرُ بالغسل يوم الجمعة مُؤكَّد جدًّا، ووجوبه أقوى مِن وُجُوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مَسِّ النساء، ووجوبه من مَسِّ الذكر، ووجوبه من القهقهة في الصَّلاة، ومن الرُّعاف، ومن الحجامة، والقيء[22].
فرع: هل الغسل لليوم أم للصلاة؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
فقيل: إنَّ الغسل للصلاة، ويبدأ بطلوع الفجر وهو قول جمهور المالكية[23] والشافعية[24] والحنابلة[25]، وخالفهم أبو يوسف[26] بأنَّه يجوز قبلَ طلوع الفجر، كما يجوز قُبَيل الصلاة على ألاَّ يُحدِث قبل الصلاة وإلاَّ أعاد الغسل.
وقيل: الغسل ليوم الجمعة، وعليه فيمتد إلى غروب الشمس، وهو مذهب ابن حزم[27]، واختارَه بعضُ الأحناف[28].
أدلَّة القائلين بأنَّه للصلاة، ويبدَأ بطلوع الفجر:
• عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «إذا جاء أحدُكم الجمعة، فليغتسل»[29].
ووجه الدلالة أنَّه قيَّد الغسل بالمجيء إلى الجمعة.
• عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قالت: كان الناس يَنتابون يوم الجمعة من مَنازِلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يُصِيبهم الغبار والعرق فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – : «لو أنَّكم تطهَّرتم ليومكم هذا»[30].
• عن عكرمة، أنَّ أناسًا من أهل العراق جاؤوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجبًا؟ قال: لا، ولكنَّه أطهر وخيرٌ لِمَن اغتسل، ومَن لم يغتَسِل فليس عليه بواجبٍ، وسأُخبِركم كيف بدء الغسل: كان الناس مجهودين يَلبَسون الصوف ويعمَلُون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقًا مقارب السقف إنما هو عريش، فخرج رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – في يومٍ حارٍّ، وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارَتْ منهم رياح آذَى بذلك بعضُهم بعضًا، فلمَّا وجد رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – تلك الريح قال: «أيُّها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتَسِلوا، وليمسَّ أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه»، قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل ووسع مسجدهم، وذهَب بعض الذي كان يُؤذِي بعضهم بعضًا من العرق[31].
ووجه الدلالة أنَّه شرع للتنظيف وإزالة الروائح أثناء الاجتِماع لصلاة الجمعة؛ أي: قبل الصلاة، فدلَّ على أنَّه شرع للصلاة وليس لليوم.
• عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: أنَّ عمر بن الخطاب – رضِي الله عنه – بينما هو قائمٌ في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأوَّلين من أصحاب النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فناداه عمر: أيَّة ساعة هذه؟ قال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أنْ توضأت، فقال: والوضوء أيضًا، وقد علمت أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – كان يأمر بالغسل[32].
ووجْه الدلالة أنَّ عمر – رضي الله عنه – أنكَرَ عليه المجيء للصلاة بدون غسل؛ لأنَّه إنْ كان لليوم لما كان في إنكاره معنى؛ لأنَّه تحجيرٌ لما وسَّعَه الله، فدلَّ على أنَّه شرع للصلاة.
• عن أبي هريرة – رضِي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «مَن اغتَسَل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرَّب بدَنَة، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقَرَة، ومَن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن، ومَن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دَجاجَة، ومَن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرَج الإمام حضَرت الملائكة يستَمِعون الذكر»[33].
ومحلُّ الشاهد منه قوله – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «مَن اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح…».
فحرف العطف (ثم) يُفِيد الترتيب مع التراخي، فدلَّ على أنَّ الغسل يسبق الصلاة.
هذه أدلَّة الجمهور، وزاد أبو يوسف أنَّه يجوز قبل الفجر باللُّغة، فاليوم في اللغة يُراد به اليوم والليلة.
أدلَّة مَن قال: الغسل ليوم الجمعة، ويمتدُّ إلى غروب الشمس:
• عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلم»[34].
• عن عروة بن الزبير، عن عائشة، زوج النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قالت: كان الناس يَنتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي فيأتون في الغبار يُصِيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لو أنَّكم تطهَّرتم ليومكم هذا»[35].
ووجْه الدلالة من الحدِيثين أنَّ اليوم أُضِيف إلى الجمعة، واليوم من طلوع الفجر إلى غروبه.
• عن أبي هريرة – رضِي الله عنه – قال: قال النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لله – تعالى – على كلِّ مسلم حقٌّ أنْ يغتسل في كل سبعة أيَّامٍ يومًا».
وفي روايةٍ موقوفة على أبي هريرة زيادة: «كل جمعة»، فلم يُحَدِّد الساعة.
الراجح:
والذي يظهر أنَّ الراجحَ هو قول الجمهور وأنَّ الأحاديث التي استدلُّوا بها تُفِيد أنَّ إطلاق اليوم في اللغة قد قُيِّد بالصلاة فتوجَّب المصير إليه، ومن جهةٍ أخرى فتشريع الغسل كان للتنظُّف وإزالة الرَّوائِح، فالذي يبدو أنَّه لو اغتَسَل ليلة الجمعة ثم نام فقد يتعرَّق وتصدُر منه رائحةٌ، فصار متأكدًا عليه إعادته، وهذا ما جعَل المالكيَّة يشتَرِطون اتِّصاله بالرَّواح، وهذا القول وجيهٌ.
فرع: الغسل للجمعة والجنابة غسلاً واحدًا:
يفتَقِر الغسل إلى النيَّة؛ لأنَّه عِبادةٌ فافتَقَر إلى النيَّة كتجديد الوضوء، فمَن أصبح يوم الجمعة جنبًا فعليه غُسلان: واجب: وهو الجنابة، ومسنون: وهو الجمعة، فهل يجزيه غسل واحد عنهما؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
قال الجمهور[36]– وهو الراجح -: إن اغتسل لهما غسلين كان أفضل، ويُقدَّم غسل الجنابة، وإن اغتسل لهما غسلاً واحدًا ينويهما معًا أجزَأَه؛ لأنَّ الغسل إذا تَرادَف تداخَل كغسل الجنابة والحيض، بمعنى أنْ ينوي مع العبادة المفروضة عبادة أخرى مندوبة.
وحاصِلُه: أنَّه إمَّا أنْ يكون في الوسائل أو في المقاصد، فإنْ كان في الوسائل فالكلُّ صحيح.
واستدلُّوا لذلك بقولهم: إنَّه لَمَّا ناب غسل الجنابة عن الغسل المفروض كان أولى أنْ ينوب عن المسنون، وليس لاختلاف أحكامهما وجهٌ في الامتناع مِن تداخُلهما كالحيض والجنابة، والله أعلم[37].
وقال الظاهرية[38]: لا يجزئ غسلٌ واحد، بل يلزمه غسلان؛ مشيًا على قاعدة “لا يجزئ واجب عن واجب”، وبناء على أنَّ غسل الجمعة واجبٌ عندهم.
واستدلُّوا بما رواه الحاكم[39] من طريق يحيى بن أبي كثير عن عبدالله بن أبي قتادة قال: دخَل عليَّ أبي وأنا أغتَسِل يوم الجمعة فقال: غسل من جنابة أو للجمعة؟ قال: قلت: من جنابة، قال: أعد غسلاً آخر؛ فإنِّي سمعتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: «من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى»؛ (سنده ضعيف)[40].
فرع: لو اغتَسَل بعد الفجر ثم أجنب:
وإذا اغتسل الرجل غسل الجمعة ثم أجنب بعده عمدًا أو غير عمدٍ اغتسل للجنابة ولم يُعِدْ غسل الجمعة، وهو قول الكافَّة، وخالَف الأوزاعيُّ وقال: يُعِيد غسل الجمعة، وهذا خطأ؛ لأنَّ غسل الجمعة تنظيفٌ، فإذا تعقَّبه غسل الجنابة زادَه تنظيفًا ولم يُعِده[41].
فرع: غسل مَن لا تجب عليه الجمعة:
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
فقيل: يُسَنُّ لكلِّ مَن أراد الحضور، سواء الرجل والمرأة والصبي والمسافر والعبد وغيرهم، ولا يُسَنُّ لِمَن لم يحضر وإنْ كان من أهل الجمعة، وهو مذهب الأحناف[42]، والمالكية[43]، وأصحُّ الأوجُه عند الشافعية[44].
وقيل: يُسَنُّ لذكَرٍ حضر الجمعة ولو لم تجب عليه، وهو المشهور من مذهب الحنابلة[45].
وقيل: لا يُسَنُّ إلاَّ لِمَن لَزِمَه الحضور، وهو وجهٌ في مذهب الشافعيَّة[46].
وقيل: يسن لِمَن هو من أهل الجمعة، ولم يحضر لعذرٍ، وهو وجْهٌ آخَر في مذهب الشافعية[47].
وقيل: الغسل على كلِّ بالغٍ من الرِّجال والنِّساء، حضروا الصلاة أو لم يحضروا، وهو وجهٌ في مذهب الشافعيَّة[48]، وهو مذهب الظاهريَّة([49])، زادوا: الحائض والنُّفَساء.
دليل القائلين بأنَّه يُسَنُّ لِمَن حضَر ولو لم تلزمه:
• عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل»[50].
فلفظ: ((أحدكم)) يعمُّ أيَّ أحدٍ جاء إلى الصلاة.
• عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «مَن اغتَسَل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرَّب بدَنَة، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقَرَة، ومَن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن، ومَن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومَن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر»[51].
ووجه الدلالة أنَّه علق الغُسل بالرَّواح.
• عن ابن عمر – رضِي الله عنهما – قال: قال رسول – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «مَن أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومَن لم يأتها فليس عليه غسلٌ من الرجال والنساء»([52]).
دليلُ مَن قال: يلزم كل بالغ حضر أم لا:
• عن أبي سعيدٍ الخدري – رضِي الله عنه – عن النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلم»[53].
فلفظ: ((كل)) قد عمَّ الرجال والنساء حضَرُوا أم لم يحضروا.
• عن أبي هريرة – رضِي الله عنه – عن النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: «حقٌّ لله على كلِّ مسلم أنْ يغتسل في كلِّ سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده»[54].
فجعل الغسل كلَّ سبعة أيَّام حضر أم لم يحضر.
دليل مَن قال: يلزم الرجال دون النساء:
• تمسَّكوا بلفظة: «مَن جاء منكم الجمعة فليغتسل»، ورد هذا القول بأنَّه من باب التغليب، وأنَّ النساء شقائق الرجال، ومن جهةٍ أخرى فقد جاء في لفظ آخر: «مَن أتى الجمعة»، وهذا يعمُّ الرجال والنساء.
دليلُ مَن قال: يلزم الغسل مَن تلزمه الجمعة وإنْ ترَكَها لعذر:
قالوا: المشروع في حق المعذور أمران: غسل الجمعة، وحضورها، فإنْ سقط عليه أحدهما لزمه الآخَر.
الراجح:
والذي يَظهَر ممَّا سبَق أنَّ الغسل يسنُّ لكلِّ بالغٍ حضر الجمعة من الرجال والنساء؛ لأنَّ الأحاديث التي تحثُّ على الغسل يوم الجمعة قد قيدت بالمحتلم، ومن جهةٍ أخرى قيدت بالحضور إلى الجمعة مخافة تأذِّي الناس برائحة بعضهم البعض، والله أعلم.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحْبه أجمعِين
[1] “بدائع الصنائع” (1/270)، “شرح فتح القدير” (1/69)، “البناية شرح الهداية” (1/279).
[2] “الكافي في فقه أهل المدينة” (70)، “المعونة على مذهب أهل المدينة” (1/170)، “مواهب الجليل” (1/543)، “حاشية الصاوي” (1/331).
[3] “الحاوي الكبير” (1/372)، “المجموع” (4/404)، “مغني المحتاج” (1/434).
[4] “الشرح الكبير مع الإنصاف” (5/268)، “المحرر في الفقه” (1/144).
[5] “المحلى” (2/8).
[6] “المستوعب” (1/278)، “الشرح الكبير مع الإنصاف” (5/268).
[7]”الشرح الكبير مع الإنصاف” (5/268).
[8] أخرجه أحمد (20349، 20381، 20436، 20439، 25523)، والدارمي (1540)، وأبو داود (354)، والترمذي (497)، والنسائي (3/94)، وفي الكبرى (1696)، وابن خزيمة (1757).
من طرق عن كلٍّ من همام وشعبة عن قتادة، عن الحسن، فذكره.
قال النسائي: الحسن عن سمرة كتابًا، ولم يسمع الحسن من سمرة إلاَّ حديث العقيقة، والله تعالى أعلم.
وقال الترمذي: حديث سمرة حديث حسن، وقد رواه بعض أصحاب قتادة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، ورواه بعضهم عن قتادة، عن الحسن، عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – مرسل.
[9] مسلم (857).
[10] البخاري (878) ومسلم (845).
[11] “الرسالة” (841).
[12] “الفتح” (2/361).
[13] البخاري (902) مسلم (847).
[14] “الفتح” (2/361).
[15] البخاري (877).
[16] البخاري (880) ومسلم (846).
[17] مسلم (849) والبخاري (898).
[18] البخاري (879) ومسلم (846).
[19] “الفتح” (2/362).
[20] البخاري (902).
[21] “سنن أبي داود” (353)، قال الحافظ في “الفتح” (2/362): أخرجه أبو داود والطحاوي، وإسناده حسن.
[22] “سبل السلام” (1/118).
[23] “المدونة الكبرى” (1/227)، “الكافي في فقه أهل المدينة” (70)، “المعونة على مذهب أهل المدينة” (1/170)، “مواهب الجليل” (2/543)، “حاشية الصاوي” (1/331).
[24] “الحاوي الكبير” (1/374)، “المجموع” (4/406)، “مغني المحتاج” (1/435).
[25] “الشرح الكبير مع الإنصاف” (5/271)، “المحرر في الفقه” (1/144)، “كشاف القناع” (1/139).
[26] “بدائع الصنائع” (1/270)، “شرح فتح القدير” (1/72)، “البناية شرح الهداية” (1/287).
[27] “المحلى” (2/19).
[28] “رد المحتار” (1/308)، “شرح فتح القدير” (1/71)، “مراقي الفلاح مع حاشيته” (45).
[29] البخاري (877).
[30] البخاري (902).
[31] “سنن أبي داود” (353)، قال الحافظ في “الفتح” (2/362): أخرجه أبو داود والطحاوي وإسناده حسن.
[32] البخاري (878) ومسلم (845).
[33] البخاري (881) ومسلم (846).
[34] البخاري (879) ومسلم (846).
[35] البخاري (902).
[36] “المدونة الكبرى” (1/228)، “القوانين الفقهية” (28)، “الحاوي الكبير” (1/375)، “المجموع” (4/406)، “طرح التثريب” (2/9)، “الأشباه والنظائر”؛ للسيوطي (37)، “الشرح الكبير” (5/272)، “المستوعب” (1/278)، “شرح منتهى الإرادات” (2/28).
قال النووي في “المجموع”: “قال ابن المنذر: أكثر العلماء يقولون: يُجزِئ غسلٌ واحدٌ عن الجنابة والجمعة، وهو قول ابن عمر ومجاهد ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبي ثور، وقال أحمد: أرجو أنْ يجزئه، وقال أبو قتادة الصحابي لِمَن اغتسل للجنابة: أعد غسلاً للجمعة، وقال بعض الظاهرية: لا يجزئه”.
[37] قال الحافظ ابن رجب (8/91): “مَن عليه غسل الجنابة، فاغتسل للجنابة يوم الجمعة – فإنَّه يُجزِئه عن غسل الجمعة، وسواء نوى به الجمعة، أو لم ينوِ، أمَّا إنْ نواهما بالغسل فإنَّه يحصل له رفْع حدَث الجنابة وسنَّة غسل الجمعة بغير خِلافٍ بين العلماء، رُوِي ذلك عن ابن عمر وتَبِعَه جمهور العلماء.
وللشافعية وجهٌ ضعيفٌ: لا يجزئه عنهما، وقاله بعض الظاهريَّة، وحكي عن مالكٍ، وقيل: إنَّه لا يصحُّ عنه، إنما قالَه بعض المتأخِّرين من أصحابه، وقد ذُكِر ذلك للإمام أحمد عن مالكٍ فأنكره.
وأمَّا إنْ نوى بغسله الجنابةَ خاصةً، فإنَّه يرتفع حدثُه من الجنابة.
وهل يحصل له سنَّة الاغتِسال للجمعة؟
على قولين: أشهرهما: لا يحصل له، ورُوِي عن أبي قتادة الأنصاري صاحب النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – لقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الأعمال بالنيَّات، وإنما لامرئٍ ما نوى))، وهو المشهور عن مالكٍ، ورُوِي نحوه عن الأوزاعي، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وأحمد، ونصَّ عليه أحمد في رواية الشالنجي.
والثاني: يحصل له غسل الجمعة بذلك، وهو أحد قولي الشافعي، وقول أشهب المالكي، وهو نصُّ الشافعي، وقول أبي حنيفة وإسحاق، مع كون أبي حنيفة يعتبر النيَّة لنفل الطهارة، وحكَاه ابن عبدالبر عن عبدالعزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والليث بن سعد والطبري، وهو أحد الوجهين لأصحابنا.
وأمَّا إنْ نوى الجنب غسل الجمعة، ولم ينوِ غسل الجنابة، فهل يرتَفِع حدث الجنابة بذلك؟ فيه قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد، ومن أصحابنا مَن رجَّح: أنَّه لا يرتفع؛ لأنَّ غسل الجنابة ليس سببه الحدث؛ ولهذا يشرع للطاهر”.
وعلى هذا: فهل يحصل له به سنَّة غسل الجمعة مع بَقاء غسل الجنابة عليه؟ فيه وجهان لأصحابنا والشافعية، أصحهما: أنَّه يحصل له ذلك.
[38] “المحلى” (2/42).
[39] “المستدرك” (1045).
[40] هذا السند فيه ضعفٌ من جهة عنعنة يحيى بن أبي كثير، وهو مدلس.
ومن جهة هارون بن مسلم، ففيه لين.
قال البَرقاني: قلتُ للدارَقُطْني: روى سريج بن يونس، عن أبي الحسين هارون بن مسلم، فقال صاحب الحناء، بصري صُويلِح، يعتبر به، (526).
وقال الدارَقُطْني: كان ضعيفًا، “العلل” 6/ 147، موسوعة أقوال الدارقطني (688).
قال أبو حاتم فيه لين، وقال الحاكم: ثقة، وذكره ابن حبان في “الثقات”، وأخرج له هو وابن خزيمة في صحيحيهما، “ميزان الاعتدال” (9172)، “تهذيب التهذيب” (11/11).
[41] “الحاوي الكبير” (1/376)، “المجموع” (4/408).
[42] “بدائع الصنائع” (1/269)، “إعلاء السنن” (1/234).
[43] “بلغة السالك” (1/331) “حاشية الدسوقي” (1/384)، “التاج والإكليل” (2/543)، “الفواكه الدواني” (2/633).
[44] “المجموع” (4/405)، “مغني المحتاج” (1/434).
[45] “الشرح الكبير مع الإنصاف” (2/117)، “شرح منتهى الإرادات” (1/164)، “كشاف القناع” (1/139).
[46] “المجموع” (4/405)، “مغني المحتاج” (1/434).
[47] “المجموع” (4/405).
[48] “المجموع” (4/406).
[49] “المحلى” (2/19).
[50] البخاري (877).
[51] البخاري (881) ومسلم (846).
[52] “صحيح ابن خزيمة” (1752)، غير أنَّ لفظة: ((النساء)) شاذَّة، تفرَّد بها عثمان بن واقد عن نافع، وقد خالَفَه فيها كِبار أصحاب نافع وهم: مالك، وعبيدالله بن عمر، والليث، والحكم بن عتيبة، وأبي إسحاق السبيعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن كثير الكاهلي، ومالك بن مغول، وأيوب، ويحيى بن أبي كثير.
[53] البخاري (879) ومسلم (846).
[54] مسلم (849) والبخاري (898).
________________________________________________________
الكاتب: عبدالجليل مبرور
Source link