رمضان والقرآن وقيام الليل – طريق الإسلام

ثمة ارتباط متين وعلاقة وطيدة بين القرآن وشهر رمضان، تلك العلاقة التي لا يشعر بها إلا أهل الإيمان وحملة القرآن؛ حيث يجد المسلم في نفسه أنسًا لا يجده في غير القرآن وخصوصًا في شهر الصيام..

الحمد لله..

ثمة ارتباط متين وعلاقة وطيدة بين القرآن وشهر رمضان، تلك العلاقة التي لا يشعر بها إلا أهل الإيمان وحملة القرآن؛ حيث يجد المسلم في نفسه أنسًا لا يجده في غير القرآن وخصوصًا في شهر الصيام، ويجد لذة في تدبر آياته وفي التأمل في أحكامه وقصصه وأخباره؛ فيلزم تلاوته بشغف وشوق، وما نزوله في شهر رمضان إلا تأكيدًا على أنه شهر القرآن، كما قال الحكيم المنان: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].

 

يقول الإمام الحافظ ابن كثير معلقًا على هذه الآية الكريمة: “وكان ذلك -أي إنزال القرآن- في شهر رمضان في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وقال رب العزة والجلال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]، ثم نزل بعده مفرقًا بحسب الوقائع على رسول الله، صلى الله عليه وسلم”[1].

 

ومما يؤكد على عظيم علاقة القرآن بشهر رمضان مدارسة جبريل -عليه السلام- الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان-كما جاء في الصحيحين: “وكان يعارضه القرآن في كل عام مرة، وفي العام الذي توفي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عارضه جبريل القرآن مرتين”[2].

 

ومن أسرار العلاقة بين القرآن الكريم وشهر رمضان: مشروعية صلاة القيام والتراويح في رمضان بآيات القرآن الكريم، ولا يتحقق التهجد إلا بالقرآن، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وكذا قوله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 2، 4]، ولا يتحقق كذلك القيام إلا به، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، ولا يتحقق القنوت والذي هو طول القيام إلا بالقرآن الكريم إذ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فقِيلَ له: غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، قالَ: «أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» [3]. وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشرة ركعة، وفي رواية: ثلاث عشرة ركعة، وكان يداوم عليها في رمضان وفي غيره.

 

وكان يقول صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر..[4].

 

فإذا مرض أو عجز صلى جالسًا، وكان يوصي أصحابه بملازمة قيام الليل، والحفاظ عليه وأدائه؛ فقد قال لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ»[5] وكان يقول صلى الله عليه وسلم: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة[6].. يا له من فضل عظيم جدًا.

 

ولذلك كان حال الصحابة الكرام مع قيام الليل عجيبًا، حتى قيل: إنك إن مررت ليلًا بجانب بيوت الصحابة، تسمع لبيوتهم دويًّا كدوي النحل[7].

 

أي صوتًا كصوت النحل، هم ما بين قارئ للقرآن ومستغفر، وقائم ومسبِّح، وباكٍ وداعٍ ومكبِّر.

 

يقول أبو عثمان النهدي: ” تَضَيَّفْتُ أبا هريرة سبعة أيام – أي نزلت ضيفًا عليه – فكان هو وزوجتُه وخادمُه يقتسمون الليل ثلاثًا؛ الزوجة ثلثًا، وخادمه ثلثًا، وأبو هريرة ثلثًا”[8].

 

وذكر النبيُ صلى الله عليه وسلم عبدَالله بن عمر رضي الله عنه، فَقَالَ: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» فَكَانَ عبدالله بن عمر رضي الله عنه بَعْدَ ذَلِكَ يقوم الليل ولا ينام إلا قليلًا[9].

 

فرضي الله تعالى عن الصحابة الأكرمين، ووفقنا للاقتداء بهم أجمعين، وجعلنا ممن شمِلهم هذا الأجر العظيم: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15 – 18].

 

 

وقد اتفق أهل العلم على أن أفضل الذكر هو القرآن الكريم، ومن ذلك ما قاله سفيان الثّوري -رحمه الله- قال: “سمعنا أن قراءة القرآن أفضلُ الذِّكر إذا عمل به[10]، وقال الإمام النووي -رحمه الله-: “اعلم أن تلاوة القرآن هي أفضل الأذكار والمطلوب القراءة بالتدبر”[11].

 

ورد عن عثمان رضي الله عنه-أنه قرأ القرآن في ليلة واحدة[12].

 

وكان بعضهم يختم القرآن في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، كانوا يقرؤون القرآن في الصلاة وفي غيرها، فكان للإمام الشافعي -رحمه الله- في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وكان قتادة -رحمه الله-، يختم في كل سبع دائمًا وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، كما كان هو حال الإمام مالك -رحمه الله- مع القرآن إذا دخل رمضان يترك قراءة الحديث ومجالس الحديث، ويُقْبِل على تلاوة القرآن الكريم، وكان سفيان الثوري -رحمه الله- إذا دخل عليه رمضان هجر كثيرا من العبادات التي كان يواظب عليها في غير رمضان وأقبل على قراءة القرآن[13].

 

وتدبر القران لا شك أنه مقصود للقارئ، كما قال الله جل وعلا في كتابه العزيز: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، ثم أن الله -تعالى- وصف أممًا سابقة بأنهم، {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].

 

والمراد بالأمية في الآية، أي: أنها أمية عقل وفهم، وأمية تدبر وعمل، لا أمية قراءة وكتابة، والأماني، كما قال أهل التفسير: “أنهم كانوا يرددون كتابهم من غير فقه ولا عمل”.

 

فلنحرص -أيها الأخوة- على ترتيل آيات الذكر الحكيم في هذا الشهر العظيم بتدبر وحضور قلب، ولنجعل لنا وردًا يوميًا لا نفرط فيه ولا نغفل عنه؛ حتى ننعم في هذا الشهر الفضيل بالأجور العظيمة ونحظى بما فيه من العطايا والغنائم الجزيلة، كما يجب أن لا ننسى أن نجعل لبيوتنا وأهلنا وأولادنا حظًا من هذا الخير العميم والثواب العظيم[14].

 


[1] تفسير ابن كثير (1 /268).

[2] أخرجه البخاري (3624)، ومسلم (2450).

[3] أخرجه البخاري (4836)، ومسلم (2819).

[4] أخرجه البخاري (472).

[5] أخرجه البخاري (1152).

[6] أخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (1364)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (447).

[7] انظر الزهد لابن المبارك(97).

[8] أخرجه البخاري (5441).

[9] أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479).

[10] التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي (ص: 48).

[11] الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص: 101).

[12] الاستذكار لابن عبد البر (2/ 475)، وشرح معاني الآثار للطحاوي (1 /294).

[13] انظر لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف (ص: 305 ت عوض الله).

[14] ومن مراجع الخطبة بتصرف:

1- موقع ملتقى الخطباء (علاقة القرآن الكريم بشهر رمضان المبارك – خطب مختارة).

2- شبكة الألوكة (من صفات عباد الرحمن: قيام الليل (خطبة)).

___________________________________________________________
الكاتب: د. صغير بن محمد الصغير


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *