على نهج أنبياء الله ورسله عليهم السلام في الدعاء للأولاد كان الصالحون من الأمم السابقة، والصالحون من هذه الأمة؛ فقد حكى القرآن الكريم عن أم مريم أنها عوَّذت مريم -عليها السلام- بالله العظيم من الشيطان عند الولادة، فقالت في دعائها: {{وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}} [آل عمران: 36]، فاستجاب الله دعاءها، وبارك في ابنتها: {{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}} [آل عمران: 37]؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: « {{فتقبلها ربها بقبول حسن}} ؛ أي: سلك بها طريق السعداء {{وأنبتها نباتًا حسنًا}} ؛ يعني: سوَّى خَلْقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام»[1].
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «نشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة»[2]، واصطفاها الله على نساء العالمين، واختارها لتكون فيها آية من آياته الكبرى بأن وهَبها عيسى -عليه السلام- بكلمة منه دون أب، وأعاذها وابنها من الشيطان الرجيم؛ فلم يكن للشيطان عليهما سبيل.
وحكى القرآن عن العبد الصالح الذي بلغ سن الأربعين أنه دعا ربه، فقال: {{وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} } [الأحقاف: 15]؛ أي: اجعل ذريتي صالحين، قال سهل بن عبدالله -رحمه الله-: «المعنى اجعلهم لي خَلف صِدْق، ولك عبيد حقّ»، وقال أبو عثمان: «اجعلهم أبرارًا لي مطيعين لك»، وقال ابن عطاء: «وفِّقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم»، وقال محمد بن علي: «لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلًا»[3].
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «{وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}: أي نَسْلي وعَقبي»[4].
وقال ابن سعدي -رحمه الله- عن دعاء العبد الصالح: «هذا دعاء محتوٍ على صلاح العبد، وإصلاحِ الله له أمورَه كلّها، وإصلاح ذريته في حياته وبعد مماته، وهو دعاء حقيقٌ بالعبد خصوصًا إذا بلغ الأربعين أن يداوم عليه بِذُلٍّ وافتقارٍ»[5].
وقد استجاب الله -تعالى- دعا العبد الصالح؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «فلم يبقَ له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر»[6].
وقال ابن عاشور -رحمه الله-: «ومعنى ظرفية: {فِي ذُرِّيَّتِي}؛ أن ذريته نزلت منزلة الظرف يستقر فيه ما هو به الإصلاح، ويحتوي عليه، وهو يُفيد تمكُّن الإصلاح من الذرية، وتغلغله فيهم»[7].
* * *
وقد جاءت السُّنة النبوية بالتأكيد على أن دعاء الآباء والأمهات للأولاد لا يُرَدّ؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهن»، وعدَّ منها: «دعوة الوالد لولده»[8]؛ قال المناوي -رحمه الله- مبينًا العِلَّة: «لأنه صحيح الشفقة عليه، كثير الإيثار له على نفسه، فلما صحَّت شفقته استُجِيبت دعوته، ولم يذكر الوالدة مع أنَّ آكدية حقها تؤذن بأقربية دعائها إلى الإجابة من الوالد؛ لأنه معلوم بالأولى»[9].
وجاء عن الحسن -رحمه الله- أنه قال: «دعاء الوالدين يُثَبِّت المال والولد». وسُئل الحسن -رحمه الله-: ما دعاء الوالد لولده؟ قال: «نجاة». وجاء عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: «دعوة الوالد لا تُحْجَب عن الله -عز وجل-»[10].
* * *
وحكت كتب التاريخ الإسلامي قصصًا كثيرة عن استجابة الدعاء للأولاد، قال عبدالرحمن بن أحمد: سمعت أبي يقول: «جاءت امرأة إلى ابن مخلد، فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويرة، ولا أقدر على بَيْعها، فلو أشرت إلى مَن يفديه بشيء، فليس له ليل، ولا نهار، ولا نوم، ولا قرار، فأطرق الشيخ وحرَّك شفتيه، فلبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها وأخذت تدعو له، وقالت: حديث يُحدّثك به، فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم، فخرج إلى الصحراء لنخدمه، ثم يردنا وعلينا قيودنا، فبينما نحن نجيء من العمل بعد المغرب، انفتح القيد من رجلي ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت فيه المرأة ودعا الشيخ، قال: فنهض الذي كان يحفظني فصاح عليَّ، وقال: كسرتَ القيد؟ قلت: لا، إنه سقط من رجلي، قال: فتحيروا خبر صاحبه، وأحضر الحداد وقيدوني، فلما مشيت خطوات سقط القيد من رِجْلي، فتحيروا في أمري، فدعوا رهبانهم، فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت: نعم، قالوا: قد وافق دعاؤها الإجابة، وقالوا: أطلقك الله، فلا يمكننا أن نُقيّدك، فرَدُّوني إلى ناحية المسلمين»[11].
* * *
وجاءت الأحاديث الصحيحة بالتحذير من الدعاء على الأولاد؛ فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم»[12].
قال ابن عثيمين -مُعلِّقًا على الحديث-: «ربما يصادف ساعة إجابة فتُجَاب، فهذا يقع كثيرًا عند الغضب، إذا غضب الإنسان ربما يدعو على نفسه، وربما يدعو على ولده، ويقول: قاتلك الله، قتلك الله، وما أشبه ذلك، حتى إن بعضهم يدعو على ولده باللعنة، نسأل الله العافية، وكذلك نجد بعضهم يدعو على أهله على زوجته، على أخته، ربما دعا على أُمّه، والعياذ بالله، مع الغضب، … كل ذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ندعو عليه؛ لأنه ربما صادف ساعة إجابة، فإذا صادف ساعة إجابة فإنه يُستجاب لو قلت لولدك: تعالَ لماذا فعلت كذا، الله لا يوفقك، الله لا يربحك، الله لا يصلحك، فتصادف ساعة إجابة؛ كل هذا حرام لا يجوز؛ لأنه ربما صاف ساعة إجابة، … لا تدعُ عليه، لكن قل: اللهم يسِّر الأمر، اللهم سهِّل حتى يحصل التسهيل والتيسير»[13].
وعلى ذلك شواهد تاريخية كثيرة، ومنها: قصة دعاء أم جريج؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ««لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلّا ثَلاثَةٌ عِيسى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ، وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِدًا، فاتَّخَذَ صَوْمعةً، فَكانَ فيها، فأتَتْهُ أُمُّهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ على صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ على صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: أيْ رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ على صَلاتِهِ، فقالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ، فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجًا وعِبادَتَهُ وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قالَ: فَتَعَرَّضَتْ له، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها، فأتَتْ راعِيًا كانَ يَأْوِي إلى صَوْمعتِهِ، فأمْكَنَتْهُ مِن نَفْسِها، فَوَقَعَ عليها فَحَمَلَتْ، فَلَمّا ولَدَتْ قالَتْ: هو مِن جُرَيْجٍ، فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فقالَ: ما شَأْنُكُمْ؟ قالوا: زَنَيْتَ بهذِه البَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنكَ، فقالَ: أيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجاؤُوا به، فقالَ: دَعُونِي حتّى أُصَلِّيَ، فَصَلّى، فَلَمّا انْصَرَفَ أتى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرّاعِي، قالَ: فأقْبَلُوا على جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ ويَتَمَسَّحُونَ به، وقالوا: نَبْنِي لكَ صَوْمعتَكَ مِن ذَهَبٍ، قالَ: لا، أعِيدُوها مِن طِينٍ كما كانَتْ، فَفَعَلُوا»[» 14].
وفي الختام ننوِّه إلى ما يلي:
أولًا: الحرص على الدعاء للأولاد بالصلاح والهداية؛ قال القرطبي -رحمه الله-: «الواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح، والعفاف والرعاية، وأن يكونَا مُعِينَيْن له على دينه ودنياه، حتى تعظم منفعته بهما في أُولاه وأخراه»[15].
وقال القرطبي -رحمه الله-: «ليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده، ونجاته في أولاه وأخراه؛ اقتداءً بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، والفضلاء الأولياء»[16].
وقال ابن عثيمين -رحمه الله-: «ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء؛ لأن الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة»[17].
ثانيًا: التركيز على القضايا الكلية عند الدعاء للأولاد؛ وهي: العقيدة الصحيحة، والبُعد عما يناقضها كليًّا أو جزئيًّا، وبالدعاء بالمحافظة على الفرائض، ومُجالسة الصالحين، والبُعْد عن مجالسة البطالين، وخاصةً في هذا الزمن الذي صارت المجالسة غير مقتصرة على المجالسة البدنية جنبًا إلى جنب، وإنما أصبحت عابرة للقارات عبر وسائل التقنية الحديثة (الإنترنت، الجوالات)، وصارت المجالسة الإلكترونية ملازمة للأولاد على الدوام، حتى وَهُم في غُرَف نَوْمهم، ثم الدعاء للأولاد بسعة الرزق، ورغد العيش، والدعاء للوطن بالأمن والاستقرار.
ثالثًا: الحرص على اجتماع شروط إجابة الدعاء، وتحرّي أوقات الإجابة، وبذل الوُسْع في الوسائل المحققة للهداية.
والله ولي التوفيق.
[1] معالم التنزيل: 1/ 433.
[2] تفسير القرآن العظيم: 5/ 194.
[3] الجامع لأحكام القرآن: 16/ 195.
[4] تفسير القرآن العظيم: 7/ 259.
[5] المواهب الربانية، ص: 37.
[6] الجامع لأحكام القرآن: 16/ 195.
[7] التحرير والتنوير: 26/ 34.
[8] رواه أبو داود: 1536، والترمذي: 1905، وأحمد: 10196، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وحسنه الألباني.
[9] فيض القدير: 3/ 301.
[10] البر والصلة، لابن الجوزي، ص: 120.
[11] البر والصلة لابن الجوزي، ص: 121.
[12] رواه مسلم: 3009.
[13] شرح رياض الصالحين: 6/ 50-51.
[14] رواه البخاري: 3436، ومسلم: 2550، واللفظ له.
[15] الجامع لأحكام القرآن: 4/ 73.
[16] الجامع لأحكام القرآن: 11/ 80.
[17] تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة: 2/ 64.
Source link