كلَّ مولود تُشبه صورتُه وتنزع كصورةِ أبيه أو أمِّه، ولما كان آدَم أولَ البشَر – عليه السلام – لا أبَ له ولا أم، فكانتْ صورتُه محلَّ إشكال بين علمائِنا الأفاضل…
إنَّ الحمدَ لله نَحمَده، ونَستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شُرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالنا، مَن يَهدِه الله فهو المهتدي، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
فآدم – عليه السلام – أوَّل البشَر، خَلَقه الله تعالى، ثُمَّ خلَق حواَء – عليها السلام – مِن ضِلعه؛ لتكونَ له زوجةً، ثم بثَّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
وكل مولود يُولَد ينزع للأبِ أو الأمِّ بتفصيلٍ وضَّحه النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في حديثِ أنس في ردِّه على الصحابيِّ الجليل عبدالله بن سلاَم، وكان مِن كبار أحبارِ اليهود وهذا متْنه:
عن أنس- رضي الله عنه – قال: سمِع عبدُالله بن سلام بقدومِ رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهو في أرضٍ يَخترِف، فأتى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: إني سائِلُك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَّ إلا نبيٌّ: فما أوَّل أشراط الساعة؟ وما أوَّلُ طعام أهل الجَنَّة؟ وما ينزع الولدُ إلى أبيه أو إلى أمِّه؟ قال: «أخبَرَني بهنَّ جبريلُ آنفًا»، قال جبريل؟ قال: «نعمْ»، قال ذاك عدوُّ اليهود مِن الملائكة فقرأَ هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]؛ «أمَّا أوَّل أشراط الساعَة: فنارٌ تحشُر الناسَ مِن المشرق إلى المغرب، وأمَّا أوَّل طعامٍ يأكلُه أهلُ الجنة فزيادةُ كبدِ حُوت، وإذا سبَق ماءُ الرجلِ ماءَ المرأة نزَعَ الولد، وإذا سبَق ماءُ المرأة نزَعَتْ»، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهدُ أنَّك رسولُ الله يا رسولَ الله… إلى آخره))؛ (أخرجه البخاري (ح/ 4120) ).
ومِن الحديث يتبيَّن أنَّ كلَّ مولود تُشبه صورتُه وتنزع كصورةِ أبيه أو أمِّه، ولما كان آدَم أولَ البشَر – عليه السلام – لا أبَ له ولا أم، فكانتْ صورتُه محلَّ إشكال بين علمائِنا الأفاضل لحديثِ البخاري عن أبي هريرةَ – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إذا قاتَلَ أحدُكم أخاه فليجتنبِ الوجه؛ فإنَّ الله خَلَقَ آدَمَ على صورتِه»، وزاد الإشكال لما في بعضِ الطُّرق: قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «على صورةِ الرحمن».
فمِن العلماء مَن رأَى أنَّ الهاء من (صورته) ترجِع إلى الله تعالى بلا تشبيهٍ أو تمثيل أو تكييف؛ لأنَّه سبحانه القائِل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وإنَّما المقصودُ بالصورةِ وجهٌ يَلِيق بالله تعالى، وأضافَها – سبحانه وتعالى – إلى نفْسه تكريمًا وتشريفًا كَقوله – تعالى -: {نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف: 73]، وَكَمَا يُقَال فِي الْكَعْبَة: بَيْت اللَّه وَنَظَائِره، واللَّه أَعْلَم.
وذهبت طائفةٌ أخرى مِن العلماء الأفاضِل إلى أنَّ الهاء مِن (صورته) راجعةٌ إلى آدَمَ – عليه السلام – أي: خلقه على صورتِه المميّزة التي كان عليها مِن غير تناسُل، ولم يكُنْ قطُّ في صُلب ولا رحِم، ولا خُلِق عَلَقَة ولا مُضغة، ولا طفلاً، ولا مُراهقًا، بل خُلِق ابتداءً بشَرًا سويًّا، طوله سِتون ذراعًا ولم يمرَّ بما تمرُّ به ذريتُه من أطوارِ الخَلْق قط.
وقال آخرون غير ذلك مِن التفسيرات، ولا مجال لطرحِها في هذه العجالة، ونكتفي هنا أن نوضِّح بالدليل الصحيح والبرهان الساطع أصلَ الصورة التي خَلَق الله عليها آدمَ؛ لينتفع بها مَن أصابته الحيرةُ بين الأصل والصورة، والله المستعان.
وأبدأ بطرْحِ أقوال علمائِنا الأفاضل ممَّن يأخذون حديثَ الصورة على ظاهرِه دون تأويلٍ، وأنَّ الهاء من (صورته) ترجِع إلى الله تعالى مع التنزيه:
قال شيخ الإسلام “ابن تيميَّة”: هذا الحديثُ لم يكُنْ بين السلف في القُرون الثلاثة نِزاعٌ في أنَّ الضمير عائدٌ إلى الله، فإنَّه مستفيض من طُرق متعدِّدة عن عِدة مِن الصحابة، وسِياق الأحاديث كلها يدلُّ على ذلك؛ “بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية”، تحقيق: د. عبدالرحمن اليحيى (2/ 356).
وقال الآجُريُّ بعدَ رِوايته لحديثِ الصورة: هذه مِن السُّنن التي يجِب على المسلمين الإيمانُ بها، ولا يُقال: كيف؟ ولِمَ؟ بل تُستقبل بالتسليمِ والتَّصديق، وترْك النظر، كما قال مَن تَقدَّم مِن أئمَّة المسلمين؛ “الشريعة للآجُريِّ” (2/ 106).
وقال ابنُ قتيبة: “والذي عِندي – والله تعالى أعلم – أنَّ الصورة ليستْ بأعجبَ مِن اليَدين، والأصابع والعين، وإنما وقَع الإلْف لتلك لمجيئها في القُرآن، ووقعتِ الوحشة مِن هذه؛ لأنَّها لم تأتِ في القُرآن، ونحن نؤمِن بالجميع، ولا نقول في شيءٍ منه بكيفيةٍ ولا حدٍّ”؛ “تأويل مختلف الحديث” (ص: 261).
وذكر ابن بطَّة (المتوفَّى: 387هـ) في كتابه الإبانة الكُبرى “باب الإيمان بأنَّ الله – عزَّ وجلَّ – خَلَق آدَمَ على صورتِه بلا كيفٍ، قال:
“وكل ما جاء مِن هذه الأحاديث، وصحَّتْ عن رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ففرْضٌ على المسلمين قَبولُها، والتصديقُ بها، والتسليمُ لها، وترْك الاعتراض عليها، وواجِب على مَن قَبِلها، وصدَّق بها ألاَّ يضربَ لها المقاييس، ولا يتحمَّل لها المعاني والتفاسير، لكن تمرُّ على ما جاءتْ ولا يُقال فيها: لِمَ؟ ولا كَيف؟ إيمانًا بها وتصديقًا، ونقِف مِن لفظها ورِوايتها حيث وقَف أئمَّتنا وشيوخنا، ونَنتهي منها حيث انتهى بنا، كما قال المصطفى نبيُّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – بلا معارَضة، ولا تَكذيب، ولا تَنقير، ولا تفتيش، والله الموفِّق وهو حسبنا ونعمَ الوكيل”.اهـ.
ومِن أقوال أهلِ السُّنَّة الذين قالوا بأنَّ الله خلَق آدمَ على صورتِه – أي: آدَم – سِتين ذراعًا في السماء ابتداءً:
قال النوويُّ المتوفَّى (سنة 676هـ) في شرْح حديث: ((خلَق الله آدَمَ على صورتِه، طوله سِتُّون ذراعًا)) ما مختصره:
قَوْله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «خَلَق اللَّه آدَم عَلَى صُورَتِه» هذه الرِّواية ظاهرة في أنَّ الضمير في (صورته) عائدٌ إلى آدم، وأنَّ المراد أنَّه خُلِق في أول نشأته على صورتِه التي كان عليها في الأرض، وتُوفِّي عليها، وهي طوله ستُّون ذراعًا، ولم ينتقلْ أطوارًا كذريَّته، وكانتْ صورته في الجَنَّة هي صورته في الأرْض لم تتغيَّر. اهـ[1].
وذهَب الإمَامُ المناويُّ في فيض القدير مفسِّرًا للحديث على نفس الوتيرة، قال ما مختصره:
((خَلَق اللهُ آدَمَ على صورتِه))؛ أي: على صورة آدَم التي كان عليها مِن مبدأ فِطرته إلى موتِه لم تتفاوتْ قامتُه ولم تتغيَّر هيئتُه، بخلافِ بَنيه، فإِنَّ كلاًّ منهم يكون نُطفةً ثم عَلَقة، ثم مُضغةً ثم عِظامًا وأعصابًا عارية، ثم مَكسُوَّة لحمًا، ثم حيوانًا مُجَنَّنًا لا يأكُل ولا يَشرَب، ثم يكون مولودًا رضيعًا، ثم طِفلاً مترعرعًا، ثم مراهقًا ثم شابًّا، ثم كهلاً ثم شيخًا.
أو خَلَقه على صورةِ حالٍ يختصُّ به، لا يُشاركه أنواعٌ أخرى مِن المخلوقات.اهـ.
وذهَب القرطبيُّ والمازريُّ – رحمها الله – على نفس التفسيرِ لمفهومِ الصورة؛ فقدْ ذكر الحافظُ ابن حجرٍ العسقلانيُّ (المتوفَّى: 852 هـ) في شرح البخاري أقوالهما، فقال:
قال القرطبي: “أعادَ بعضُهم الضميرَ على الله متمسِّكًا بما ورد في بعضِ طُرُقه: ((إنَّ الله خَلَق آدمَ على صورةِ الرَّحمن))، قال: وكأنَّ مَن رواه أورده بالمعنَى متمسكًا بما توهَّمه فغلِط في ذلك، وقدْ أنكَرَ المازريُّ ومَن تَبِعه صحةَ هذه الزِّيادة، ثم قال: وعلى تقديرِ صِحَّتها فيُحمل على ما يَليق بالباري – سبحانه وتعالى.
بل إنَّ الحافظ ابن حجر ذكَر في الفتْح في شرح الحديث ما نصُّه:
وهذه الرِّواية تؤيِّد قولَ مَن قال: إنَّ الضمير لآدم، والمعنَى أنَّ الله تعالى أوْجَده على الهيئةِ التي خَلَقَه عليها لم ينتقلْ في النشأة أحوالاً، ولا تردَّد في الأرحام أطوارًا كذريَّته، بل خلَقَه الله رجلاً كاملاً سويًّا مِن أوَّل ما نفَخ فيه الرُّوح، ثم عقَّب ذلك بقوله: «وطُوله سِتُّون ذراعًا»، فعاد الضمير أيضًا على آدم، وقيل: معنى قوله ((على صورته))؛ أي: لم يشاركْه في خلْقِه أحد؛ إبطالاً لقول أهلِ الطبائع، وخصَّ بالذِّكْر تنبيهًا بالأعْلى على الأدنى، والله أعلم.اهـ.
قلت: وانتبه جيدًا لشَرْح الحافظ والنووي شارِح صحيح مسلم لهذه الجزئية مِن الحديث: «خلَقَ الله آدَمَ على صورتِه طولُه سِتُّون ذِراعًا»؛ لأنَّها توضِّح بما لا يدَع مجالاً للشكِّ أنَّ الضمير عائد لآدَم الذي خَلَقه على صورته بشرًا سويًّا طولُه ستون ذراعًا، وهذا واضحٌ وضوحَ الشمس في كبد السماء.
وقال ابنُ بطَّال في شرح البخاري (71/ 3) ما نصه:
وذهَب طائفةٌ إلى الهاء كناية عنِ الله تعالى، وهذا أضعفُ الوجوه؛ لأنَّ حُكم الهاء أن ترجِع إلى أقرب المذكور، إلا أن تدلَّ دَلالةٌ على خلاف ذلك، وعلى هذا التأويل يكون معنَى الصورة معنَى الصفة كما يقال: عَرِّفْني صورة هذا الأمْر؛ أي: صفته، ولا صورة للأمْر على الحقيقة إلا على معنَى الصفة، ويكون تقديرُ التأويل: أنَّ الله خَلَق آدَمَ على صفتِه؛ أي خلَقه حيًّا عالمًا سمعيًا بصيرًا متكلمًا مختارًا مريدًا، فعرَفْنا بذلك إسباغَ نِعمه عليه وتشريفه بهذه الخِصال.
ونظَرْنا في الإضافات إلى الله، فوجدْناها على وجوه؛ منها: إضافة الفِعل، كما يقال: خلْق الله، وأرْض الله، وسماء الله، وإضافة المُلك فيقال: رِزْق الله، ووعيد الله، وإضافة اختصاص وتنويه بذِكْر المضاف إليه، كقولهم: الكَعْبة بيتُ الله، وكقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، ووجهٌ آخَر مِن الإضافة نحو قولهم: كلام الله، وعِلم الله، وقُدرة الله، وهى إضافةُ اختصاص مِن طريق القِيام به، وليس مِن وجهة الملك والتشريف، بل ذلك على معنَى إرادته غير متعرية منها قيامًا بها ووجودًا.
ثم نظَرْنا إلى إضافةِ الصورة إلى الله، فلم يصحَّ أن يكونَ وجه إضافتها إليه على نحوِ إضافة الصِّفة إلى الموصوف بها مِن حيثُ تقوم به؛ لاستحالةِ أن يقومَ بذاته تعالى حادثٌ، فبقِي من وجوه الإضافة المُلك والفِعل والتشريف، فأمَّا الملك والفِعل فوجهه عامٌّ، وتبطل فائدةُ التخصيص فبقِي أنَّها إضافة تشريف، وطريق ذلك أنَّ الله هو الذي ابتدأ تصويرَ آدم على غير مثالٍ سبَق، بل اخترعَه، ثم اخترع من بعده على مثالِه، فتشرَّفَتْ صُورته بالإضافةِ إليه، لا أنَّه أُريد به إثباتُ صورة لله تعالى على التحقيقِ هو بها مصور؛ لأنَّ الصورة هي التألُّف والهيئة، وذلك لا يصحُّ إلا على الأجسامِ المؤلّفة، والله تَعالَى عن ذلك.
قلت: وما ذكَرَه النووي والمناوي وابن حجر وابن بطال وغيرُهم من العلماء الأفاضل مِن أهل السُّنة – رحمهم الله – في قوله : ((إنَّ الله خلَقَ آدمَ على صورتِه))، وتأويلهم للحديثِ عن ظاهره بقولهم: إنَّ الله تعالى خلَق آدَمَ على صورته ابتداءً، وليس على صورته هو – جلَّ شأنه – هو قول ينبغي الحذر منه لما يجره هذا التأويل من الاجتهاد في غير موضعه فإن صفات الله تعالي ينبغي قبولها مع التنزيه ولم نسمع أن كان بين الصحابة والتابعين في القُرون الثلاثة الأولى خير قرون الإسلام نِزاعٌ في أنَّ الضمير عائدٌ إلى الله وإنما حدث الإشكال للحديث الذي رواه الإمام البخاري ومتنه (إن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً).
مما جعل بعض علمائنا المعاصرين كالألباني – رحمه الله- يقول: هذا الحديث لا يحتاج في علمي إلى تأويل لأن الإمام البخاري رواه في صحيحه بتتمة تغني عن التأويل، وهي (إن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً) فالضمير لا يعود إلى الله وإنما على آدم.
أما الحديث المذكور في بعض كتب السنن بلفظ (وإن الله خلق آدم على صورة الرحمن…) فهذا ضعيف بهذا اللفظ، لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت وهو مُدلس، وقد رواه معنعناً في كل الطرق التي وقفت عليها، وكلها تدور عليها”اهـ- نقلا عن كتاب: الشيخ الألباني ومنهجه في تقرير مسائل.
قلت: وما ذهب إليه الألباني وغيره من العلماء الذين يؤيدون حديث الصورة ممن ذكرناهم سلفاً وأنه عائد لآدم خطأ وتضعيفه لحديث (وإن الله خلق آدم على صورة الرحمن…) اجتهاد منه يحتمل الخطأ لأن الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه قد صححا حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي جاء فيه «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» الذي ضعفه الألباني ولا يغيب عنا أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه من أعلام الحديث وعندهما إلمام تام بالأسانيد والعلل كما لا يخفى.
وعلى كل حال لا يستطيع أحدٌ أن يقول أن هؤلاء العلماء – رحمة الله عليهم أجمعين- من أهل السنة ممن يردون حديث الصورة لآدم يتعمدون تأويل الصفات قطعا لا، وأنما هو اجتهاد منهم حسب مافهموه من صحة أسانيد أحاديث الصورة تضعيفًا أوتصحيحًا نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم.
وأرى بكل وضوح واقتناع ويقين أن الأسلم والأفضل ماذهب إليه جمهور علماء أهل السنة بأن الضمير يعود لله تعالى بلا تشبيه أوتمثيل أو تعطيل والله تعالى أعلم.
وإليك أخي القارئ ما قاله ابنُ عثيمين في إزالةِ هذه الشُّبهة، وفيه مِسك الختام؛ لأنَّه يبيِّن أصل الصورة التي خَلَق الله عليها آدَمَ، ويُبيِّن بوضوح صحةَ الرأي الذي ذهَب إليه الرأيُ الآخَر للعلماء الأفاضل، ودون تأويل للصورةِ، بل تنزيه الله عنها ونفْي المماثلة، وهو بذلك يكشف الغُمَّة، ويوفِّق بين التفسيرين بما لا يُخالِفُ عقيدةَ أهل السنة في الصِّفات – رحمه الله تعالى – والله المستعان.
قال ما نصُّه: “قال النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ الله خَلَق آدَمَ على صورتِه»، والصورة مماثلة للأُخرى، ولا يُعقل صورة إلاَّ مماثلة للأُخرى، ولهذا أكتُب لك رِسالة، ثم تُدخلها الآلةَ الفوتوغرافيَّة، وتُخرِج الرسالة، فيُقال:
هذه صورة هذه، ولا فَرْق بين الحروف والكلمات، فالصورةُ مطابقةٌ للصورة، والقائل: ((إنَّ الله خَلَق آدَمَ على صورتِه)) الرسولُ – عليه السلام – أعلمُ وأصدقُ وأنصحُ وأفصحُ الخلق، والجواب المجمَل أنْ نقول: لا يُمكن أنْ يُناقِض هذا الحديثُ قولَه – تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فإن يسَّرَ الله لك الجمْع، فاجْمَع، وإن لم يتيسَّر، فقل: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وعَقيدتنا أنَّ الله لا مَثيلَ له، فبهذا تَسلم أمامَ الله – عزَّ وجلَّ.
هذا كلامُ الله، وهذا كلامُ رسولِه، والكلُّ حقٌّ، ولا يُمكِن أن يُكذِّب بعضُه بعضًا؛ لأنَّه كله خبَر وليس حُكمًا كي يُنسَخ، فأقول: هذا نفيٌ للمماثلة، وهذا إثباتٌ للصورة، فقل: إنَّ الله ليس كمثله شيء، وإنَّ الله خَلَق آدَم على صورتِه، فهذا كلامُ الله، وهذا كلامُ رسوله، والكلُّ حقٌّ نؤمِن به، ونقول: كلٌّ مِن عند ربنا، ونسكُت، وهذا هو غايةُ ما تستطيع.
وأمَّا الجواب المفصَّل: فنقول: إنَّ الذي قال: «إنَّ الله خلَق آدَم على صورتِه» رسولُ الذي قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، والرسول لا يُمكن أن ينطقَ بما يُكذِّب المرسِل، والذي قال: «خَلَق آدَمَ على صورتِه» هو الذي قال: «إنَّ أَوَّلَ زُمرة تدخُل الجنةَ على صورةِ القَمر»، فهل أنت تعتقد أنَّ هؤلاء الذين يَدخُلونَ الجَنَّةَ على صورة القمَر مِن كلِّ وجه، أو تعتقد أنَّهم على صورة البشَر، لكن في الوضاءةِ والحُسن والجمال واستدارة الوجْه وما أشبه ذلك على صورةِ القمر لا مِن كلِّ وجه؟!
فإن قلت بالأوَّل، فمقتضاه أنَّهم دخلوا وليس لهم أعينٌ وليس لهم أنوف وليس لهم أفواه، وإنْ شِئنَا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني، زال الإشكال، وتبيَّن أنَّه لا يلزم مِن كونِ الشيء على صورة الشيء أن يكونَ مماثلاً له مِن كلِّ وجه، فإن أبَى فَهمُك وتقاصَر عن هذا، وقال: أنا لا أفهم إلاَّ أنه مماثل.
قلنا: هناك جوابٌ آخر، وهو أنَّ الإضافة هنا مِن بابِ إضافة المخلوق إلى خالقِه، فقوله: ((على صورتِه))، مِثل قوله – عزَّ وجلَّ – في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، ولا يُمكن أنَّ الله – عزَّ وجلَّ – أعْطَى آدَمَ جزءًا من رُوحه، بل المراد الرُّوح التي خَلَقها الله – عزَّ وجلَّ – لكن إضافتها إليه بخصوصِها من بابِ التشريف، كما نقول: عباد الله، يشمل الكافِرَ والمسلمَ والمؤمِن والشهيد والصِّدِّيقَ والنبيَّ، لكنَّنا لو قلنا: محمَّد عبد الله، هذه إضافةٌ خاصَّة، ليست كالعبوديَّة السابقة. اهـ.
قلت: والحاصل مِن حديثِ الصورة أنَّ الله تعالى خلَق آدم على صورتِه هو – جل شأنه – كما وضَّحْنا مِن أقوال العلماء الثِّقات، وهو الرأي الذي نؤيِّده، وهو الأسلمُ والأقوَى دليلاً وبرهانًا، وهي طريقة السلف بإمرار الصفات على مرادها بلا تأويل أو تمثيل أوتكييف أوتعطيل لها، ونعذر العلماء الأفاضلَ مِن أهل السُّنة والجماعة الذين قالوا: إنَّ الله خَلَق آدَمَ على صورتِه هو – أي آدم – مع تنزيه الله تعالى حسب فهمهم واجتهادهم في صحة أو ضعف حديث الصورة، وما ذكَرْناه هو ما نَستريح إليه، واللهُ مِن وراءِ القصد، وهو يَهدي السبيل.
_____________________________________________________________
[1] المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجاج (ح/ 5075).
___________________________________________
الكاتب: سيد مبارك
Source link