اللهم أجعل هذا العامَ عامَ خيرٍ وبركة، ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين، وعام أمنٍ وأمان وعدلٍ وسلام، وأن يجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والهدى.
فمن اتَّقى اللهَ وَقَاهُ وحَفِظهُ ورَعَاهُ، وأَكرَمَ مَنزِلَهُ ومَثواهُ، أيها المؤمنون، من أين نبدأُ التاريخَ؟ سؤال طرحه الخليفة الفاروقُ عمر رضي الله عنه على أسماع جلسائه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: نبدؤه من مولدِ النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم نبدؤه من الهجرةِ النبوية، وقال آخرون نبدؤه من البَعثةِ الشريفةِ، وبعد التشاورِ والتحاورِ، أعلن الفاروقُ عمرُ بدايةَ التاريخِ الإسلامي من الهجرةِ النبوية، ثم قال: من أي شهرٍ نبدأ السنة الهجرية؟ وتعدَّدت الآراء، فمنهم من اقترح بدايةَ العام من شهرِ رمضان، ومنهم من ذكر شهرَ محرمٍ، ومنهم من اقترح شهرَ ربيعٍ الأول، شهر مولده صلى الله عليه وسلم، وترجَّح لدى الخليفةِ الفاروقِ أن تكون بدايةُ السنة الهجرية من شهر اللهِ المحرمِ، فكما كان الحجُّ آخرَ أركانِ الإسلام، فإن شهرَ ذي الحِجة هو آخرُ شهورِ العام، وبذلك اعتمد المسلمون الهجرةَ كتأريخٍ، والشهرَ المحرم كبدايةٍ لكل عام.
ونحن الآن – أيها الإخوة – إننا نختم عامًا ونفتتحُ عامًا جديدًا بإذن الله تبارك وتعالى، أسأل الله أن يجعله عامَ خيرٍ ورخاءٍ وصحة على الجميع.
واجبُنا في هذه المناسبةِ أن يقفَ كلُّ واحد منا مع ذاته، أن يقفَ مع نفسه، وأن يتأمل أن لكلِّ مخلوق – كائنًا مَن كان – لا بد له مِن نهاية، وما دامت النهايةُ قادمةٌ فلماذا لا يجعلُها المؤمنُ نهايةً سعيدةً ولا تكون كذلك إلا إذا أطاع اللهَ واستقامَ، ومن استقام استحق البشارةَ الإلهية، كما قال ربي سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، قال العلماءُ: هذه البشارةُ عند الموتِ يسعد بها المؤمنُ من لحظةِ فراقه الدنيا إلى دخولِه الجنة، وما أسعدَها واللهِ من نهايةٍ، أنوارٌ تتنزَّل، وملائكةٌ تهنئ، وملائكة تُطمئن، وملائكةٌ تُبشر، صحَّ عن سيدِ البشر صلى الله عليه وسلم أنَّ الملائكةَ تجلس عند رأسِ المؤمنِ فتقول: «اخرُجِي أيتُها النفسُ الطيبةُ كانت في الجسدِ الطيبِ، اخرجي حميدةً وأبشري برَوحٍ وريحانٍ وربٍّ غيرِ غضبانٍ»؛ (رواه مسلم).
نعم أيها الاخوة هكذا نهايةُ العام تذكر المؤمنَ بحضورِ الأجل، وتُحفزه على طاعة الله، أملًا في تلك النهايةِ السعيدة، إن شاء الله تعالى.
أيها الكرام، مُلَازَمَةُ التَّوْبَةِ وَكَثْرَةُ الِاسْتِغْفَارِ والرجوعُ إلى العزيزِ الغفارِ، سَبَبَانِ لِلْمَتَاعِ الْحَسَنِ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود: 3]، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي المَتَاعِ الْحَسَنِ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ الْهَانِئَةُ، وَهُوَ كَقَوْلِ اللَّـهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].
إنَّ حقَّ اللهِ عليك عظيمٌ أيها الكريمُ وفضلَه عليك كبيرٌ، تأمل فيما بلغْتَهُ من عمرٍ ألم يُحرم غيرُك منه، تذكَّر مَن هم في عمرِك الآن؟ أيام دراستك أو في وظيفتك، تذكر أحبابَك وأقاربَك، وجيرانك ومعارفك، ممن ماتوا وهم في سن الشباب أو أكثر، وأبقاك الله تتنفس الحياة، فلنتدارك إذاً ما بقي، ولنعزم على التصحيحِ، ولتكُن هِمَّتُنا الفردوس الأعلى من الجنة.
أيها المباركون، إنه لا أجملَ ولا أكملَ ولا أفضلَ ولا أحفظَ ولا أسلمَ للمؤمنِ – من الاعتصامِ بالواحد الأحدِ جل وعلا، فهل يُهزم من اعتصم بجنابِه؟ وهل يَخاف من لجأ إلى محرابه؟ وهل يُحرم من انطرح على أعتابه؟ قال عز من قائل: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175].
والاعتصامُ بالله تعالى هو: التوكلُ عليه والامتناعُ والاحتماءُ به واللجوءُ إليه، وعلى قدرِ اعتصامِ المؤمنِ بمولاه يكون تسديدُه وتوفيقه وهُداه، فمن حقَّق اعتصامه بالله فلا تُخشَ عليه الضَّيعة، ولا تُخَافُ عليه الخيبة، فربُّنا لا يُخلف الميعاد.
اشدُدْ يدَيكَ بحبلِ الله مُعتَصِمًا ** فإنَّهُ الرُّكنُ إن خانتْكَ أركـــــانُ
مَن يتَّقِ الله يُحْمَدُ في عواقِبِه ** ويكفِهِ شرَّ من عزُّوا ومن هانُوا
منِ استعانَ بغيرِ اللهِ في طلبٍ ** فإنَّ ناصِرَهُ عجزٌ وخِـــــــــذْلانُ
والله المسؤولُ أن يجعلَ هذا العامَ عامَ خيرٍ وبركة، ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين، وعام أمنٍ وأمان وعدلٍ وسلام، وأن يجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويوحِّد صفوفهم، ويطهِّر مقدساتهم، وينصُرهم على أعدائهم، وأن يجعل حاضرنا خيرًا من ماضينا، ومستقبلنا خيرًا من حاضرنا، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول.
فشهرُ اللهِ المحرمِ، شهرٌ مبارك معظَّم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ الصيامِ بعد رمضان شهرُ اللهِ المحرم»؛ (رواه الإمام مسلمٌ).
وقد رجَّحَ كثيرٌ من أهلِ العلم أن شهرَ مُحرَّمٍ أفضلُ الأشهُرِ الحُرُم، وهو أفضل شهور العام بعد رمضانَ.
فحَرِيٌّ بنا أيها الأخوة أن نبدأ عامَنا بصيامِ بضعةِ أيام من هذا الشهرِ المبارك، لعِظم ثوابه عند الله جلا وعلا، فَاجْتَهِد أخي فِي اللهِ على الصِّيَامِ فِيه وَلَو أنْ تُحافِظَ على أَيَّامِ الاثْنَينِ والخَمِيسِ وَأَيَّامِ البِيضِ فيهِ.
عباد الله، لم يثبت في هذا الشهرِ شيءٌ من فضائلِ الأعمالِ إلا الصيامُ، وأما ما يروى فيه من ذِكر الصلواتِ أو القراءاتِ أو الأورادِ أو الأدعيةِ الخاصة به، فلم يثبت منها شيءٌ، وكذلك ما ورد من استحباب التوسعة على الأولاد والأهل فيه، فقد ذكر الإمام أحمد أنه لم يثبت.
أيها المؤمنون، إن أشهرَ مجرمي التاريخِ، هو فرعونُ مصرَ الذي كان في زمن موسى عليه السلام، فقد طغى وتجبر وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، ثم ارتقى به الحالُ فتطاوَل وتكبَّر وتغطرَس، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، فأخذه اللهُ نكالِ الآخرةِ والأولى.
وقال سبحانه: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 65 – 68].
أيها المسلمون، لقد وقعَ هذا النصرُ المبينُ في اليومِ العاشرِ من شهرِ اللهِ المحرمِ، فلما نجى اللهُ موسى – عليه السلام – من فرعونَ وقومِه صامَ هذا اليوم شكرًا لله وصامَه بنو إسرائيلَ، ولهذا صامَه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شكرًا للهِ، وحثَّنَا على صيامِهِ، ورتَّبَ عليهِ أجرًا كبيرًا.
أيها المؤمنون، قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»؛ (رواه مسلمٌ).
وروَى البخاريُّ ومسلمٌ أنَّ ابنَ عباسٍ رضي اللهُ عنهما سُئِلَ عَن يومِ عاشوراءَ، فقالَ: مَا رأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صامَ يومًا يَتحَرَّى فضلَهُ على الأيامِ إلاَّ هذَا اليومَ، يعني عاشوراءَ.
فلتعزِمْ يا عبدَ اللهِ على صيامِهِ، بل حُثَّ أهلَك وصغارَ بيتِك على صيامه، فلقد كانَ أطفالُ الصحابةِ يصومونَه، بل كانت الأمةُ اليهوديةُ الكافرةُ، والأمةُ الجاهليةُ المشركةُ تصومُه، أفنزهَدُ بصيامِه ونحنُ الرجالُ المسلمونَ المقتدرونَ؟
وأعلَى المراتبِ في صيامِهِ كما ذكر ذلك ابنُ القيم وغيره أن يُصامَ عَاشوراءَ مَع التاسعِ والحادي عشرَ، ثم يَليهَا صومُ التاسعِ والعاشرِ، ثم يَليها صومُهُ وَحْدَهُ.
وسُئِلَ اَلْشَّيْخُ اِبْنُ بَازٍ – رَحِمَهُ اللهُ – عن صيام هذا اليوم، فقال: َاَلْأَفْضَلُ أَنْ يَصُوْمَ قَـبْـلَـهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا، هَذَا هُوَ اَلْأَفْضَلُ؛ أَيْ يَصُوْمُ يَوْمَيْنِ، اَلْتَّاسِعَ وَاَلْعَاشِرَ أَوْ اَلْعَاشِرَ وَاَلْحَادِي عَشَر، أَوْ يَصُومُ اَلْثَّلَاثَةَ، اَلْتَّاسِعَ وَاَلْعَاشِرَ وَاَلْحَادِي عَشَر، هَذَا أَفْضَلُ، خِلَافًا لِلْيَهُودِ؛ ا. هـ
وإن ضَعُفْتَ يا عبدَ اللهِ فلا تُغْلَبَنَّ على اليومِ العاشرِ؛ فالذنوبُ كثيرةٌ، والعملُ قليلٌ، والوقوفُ بينَ يَدَي اللهِ قَريبٌ.
ولا يُسْتَحَبُّ فِعلُ شيءٍ فيهِ غيرِ الصيامِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرْشِدْنَا إلى فِعلِ شيءٍ غيرِ الصيام، وأمَّا ما تَفْعَلُهُ بعضُ الفرقِ الضالةِ مِن اللطمِ والضربِ والبكاءِ والعويلِ، بَل والشِّركِيَّاتِ ودعاءِ غيرِ اللهِ، فلاشَكَّ أنَّه ضَلالٌ وانحرافٌ عَنِ المنهجِ السَّوِيِّ.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل سنة نبيه الكريم، وأن يُحيينا على الإسلام ويُميتنا على الإيمان، وأن يوفِّقنا لما يُحب ربنا ويرضى.
_______________________________________________________
الكاتب: أحمد بن عبدالله الحزيمي
Source link