قال ﷺ «ما يُصِيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حزن، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه».
هذه ثلاث حقائقَ مُفْرِحة لكل مريض، أسوقها إليه مع باقة ورد معطرة؛ تَطْيِيبًا لخاطره، وسلوةً لروحه، وتقوية لإيمانه بأقدار الله تعالى، ستشعر لو تأمَّلْتَها بكثير من الارتياح، وحتى لو كنت تعرفها من قبلُ، فأنت بحاجة إلى التأمل المعرفي من جديد؛ لتتجاوز لحظتك الراهنة إلى واقع يُشعرك بالتفاؤل والأمل.
الإيمان مصدر الأمان:
الحقيقة الأولى: أنك مؤمن بالله العظيم، وقد تتساءل: ما الأمر المفرح في هذه الحقيقة؟ فأقول لك: إن أعظم نعمة، وأجَلَّ منحة إلهية يمكن أن تحمَد ربك عليها، هي نعمة الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كونك مسلمًا موحدًا لله؛ هذه والله أم النِّعم، نعمة تساوي الدنيا وما فيها، بل إن أعظم خسارة وأكبر مصيبة تصيب الإنسان هي أن يفقد بوصلة التوحيد، ويضيع في دَياجِيرِ الظلمات، يتدحرج من هُوَّةٍ إلى هوة، يبحث عن الأمان، ويبحث عن أصله وسبب وجوده في الدنيا، فلا تزيده الأسئلة الملحة إلا ضياعًا، ولا تزيده الإجابات الْمُضلِّلة إلا بُعْدًا عن الحقيقة.
إن إيمانك بالله تعالى هو الحبل المتين الذي يجعلك متماسكًا في كل أزماتك، وفي كل أحوالك، وهو السياج المنيع لكل هاجس مُقلِقٍ يعتريك، وكل فكرة سوداء تهاجمك، إن إيمانك العميق بأن لك ربًّا خلقك فسواك، ومن نِعَمِهِ أعطاك وأولاك، وهو الذي شاء سبحانه أن يعافيَك ثم يبتليك، وهو الذي بيده الضرُّ والنفع، ومن عنده المرض والشفاء، كل هذه المعاني الْمُتلألئة التي تلمع في نفسك، هي منح ربانية لنعمة كبرى عظيمة، لا تُقدَّر بثمن؛ وهي نعمة إيمانك بالله.
تخيَّل معي حالَ من لا يؤمن بالله، كيف يعيش حياته، حتى ولو كان سليمًا معافًى، فإنه يعيش حياة التِّيه والضياع والشَّتات، مهما بدا لغيره أنه في سعادة وهناء؛ لأن الإيمان بالله وحده هو الذي يقودك إلى معرفة أسئلة الوجود، وإجاباتها الحقيقية، ومعرفة الغاية من وجودك في هذه الحياة، ويعرفك بكُنْهِكَ ومصيرك والمطلوب منك، فافرح بإيمانك بالله، واستشعر قربه منك، وعِلْمَه بما أصابك، وقدرته على رفع مرضك وإزالة ألمك.
حتى الشوكة!
الحقيقة الثانية: أبْشِر، كل مرض بأجره، وكل ألم ومعاناة عند الله محسوب، وكل وخزة إبرة معلومة محسوبة، وكل انتظار سيكافئك الله عليه إن صبرتَ، نعم، تأمَّل فضل الله وعدله في مرضك، فأنت حين ابتلاك الله، جَعَلَ لك بابًا تستمد من أنواره الصبر؛ فالمرض كفَّارة، والمرض رِفْعَة للدرجات، والمرض يذكِّرك بضعفك وقوة الله، فتتوجه إليه وترجوه، والمرض يعيدك إلى ذاتك؛ تدبَّر قول ربنا سبحانه في كتابه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 – 157]،
ثم تأمل قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «ما يُصِيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حزن، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه»؛ (أخرجه البخاري)، لاحِظ كيف عدَّد الله تعالى ألوان الابتلاء: خوفًا، وجوعًا، ونقصًا من الأموال والأنفس والثمرات، وكذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لاحظ كيف عدَّد أنواع البلايا، ودرجاتها وأشكالها الحسية والمعنوية؛ من نَصَبٍ ووَصَبٍ، وهم وحزن، وأذى وغم، ويضرب لك مثلًا لطيفًا بقوله: «حتى الشوكة يشاكها»، أشَعَرْتَ نعمة الإيمان بالله؟! أعرَفتَ فضل الله ومِنَّتَه علينا حتى فيما يصيبنا؟!
وفي حديث آخر يخص فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه المريض من أذًى ومشقة، وكيف أن هذا الأذى يحط الخطايا والسيئات، كما تحط الشجرة ورقها؛ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَكُ – الوعك: قيل: هو الحمى، وقيل: ألمها ومغثها – فمَسِسْتُهُ بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لَتُوعك وعكًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجَل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم»، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلمٍ يُصيبه أذًى من مرض، فما سواه –وفي رواية البخاري: شوكة فما فوقها – إلا حطَّ الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها»؛ (رواه البخاري ومسلم).
وأنا أتأمل هذا الحديث بدا لي منظر المريض وهو يمشي حاملًا فوق رأسه أحمالًا ثقيلة، فإذا بها تتحاتُّ شيئًا فشيئًا، ويمشي في رحلة مرضه، وسيئاته تتساقط، وحِمْلُه يخِفُّ، حتى يلقى الله خفيفًا من أثقال أوزاره، وتلك هي البشارة العظمى لكل مريض صابر.
اخفِض سقف توقعاتك:
الحقيقة الثالثة: أنت في دار المصائب والبلايا، وستنتقل منها إلى دار أخرى هي مستقرك، وفيها مقامك الأبديُّ، هذه حقيقة تغيب عن أذهاننا كثيرًا، أتعرف لماذا؟ لأن الله تبارك وتعالى أغدق علينا من النِّعَمِ، وغمرنا بألطافه وستره، وألبسنا لباس العافية، حتى إننا ننسى أننا في دار بلاء وامتحان، هذه الحقيقة يجب أن نَعِيَها بشكل واضح، ويجب أن نستحضرها مع كل وخزة من وخزات الحياة، ومع كل منعطف من منعطفاتها، هذه الحياة لن تستقيم لأحدٍ، ولن تحلو على الدوام؛ لأن الله سبحانه أراد أن تكون محطة ابتلاء وامتحان، فهي بين منخفض ومرتفع، ولن تصفو لأحد كائنًا ما كان، وهي مجبولة على المتاعب والمصاعب والآلام، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرَّت يومًا أحزنت شهورًا، وإن متعت يسيرًا منعت طويلًا.
طُبِعَت على كَدَرٍ وأنت تريدها ** صفوًا من الأقذاء والأكــدارِ
ومُكلِّف الأيام ضد طباعهـــــا ** مُتطلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ
إن إدراكنا لهذه الحقيقة تجعلنا نخفِض كثيرًا سقف توقعاتنا في هذه الحياة، وتجعلنا في حالة من الحذر والترقب لنوائب الدهر وتقلبات الأيام، بخلاف من ركن إلى هذه الدنيا ظانًّا أنها مقامه الأبدي، متوقعًا اللذاذة والرخاء، والسكينة والعافية الدائمة، فإنه سرعان ما تصدمه هذه الحقيقة، وكون هذه الدار دار ابتلاء لا يعني بحال ألَّا يسعى الإنسان لمباهج الحياة، ويعيش حزينًا كئيبًا طول دهره، لا يستمتع بما أباح الله له، ليس هذا المقصود، وإنما المراد أن يدرك المرء حقيقة هذه الدنيا، ويتعامل معها على وَفْقِ جِبْلَتِها وطبيعتها، فإذا مرت عليه أيام الرخاء، استمتع وسعد بها، وإذا أقبلت أيام الشدة والمرض والبلاء، لبِس لها رداءَ الصبر، وإزارَ التحمُّل والاحتساب.
_____________________________________
الكاتب: صلاح عبدالشكور
Source link