“الظلم مَرْتَعُه وخيم، وعاقبته سيئة، وهو منبع الرذائل، ومصدر الشرور”
قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، ثم اعلموا -رحمكم الله – أن الظلم مَرْتَعُه وخيم، وعاقبته سيئة، وهو منبع الرذائل، ومصدر الشرور.
وتعريف الظلم: هو وضعُ الشيء في غير موضعه، وهو انحراف عن العدالة، ومتى شاع وفشا في أمة، أهْلَكَها، وإذا حلَّ في قرية أو مدينة دمَّرها، وهو والفساد قرينان، بهما تخرَب الديار، وتزول الأمصار، وتقلُّ البركات، ويحل الفشل محلها، وهو ظلمات تزول الأقدام في غَيَاهِبِهِ، وتضل به الأفهام، ويظهر الفساد، وينتشر بسببه الخوف بين الناس.
قال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، وقال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
من صور الظلم:
عباد الله، واعلموا أن للظلم صورًا وأشكالًا كثيرة، بعضها أشدُّ من بعض؛ فمن صور الظلم:
• إثارة الشبهات التي تضل المسلمين عن دينهم، أو تُشكِّكهم في كتاب ربهم وسُنَّةِ نبيهم.
• ومنها: إفساد غرائز الناس وشهواتهم بما يُعرَض على الشاشات من أفلام هدَّامة، ومسلسلات ساقطة، وأغانٍ ماجنة، وصور خليعة، يثيرون بها شهوات الشباب والفتيات، وكتابات هابطة يقتلون بها الغَيرة والفضيلة من قلوب المجتمع المسلم، ويُلهونهم عن العبادة وعن ذكر الله تعالى، فويل لهم مما يصنعون، فهذا من أعظم ظلم العباد، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
• ومن صور الظلم: التعدِّي على النفوس المعصومة بالقتل أو الضرب أو التعذيب؛ قال رسول الله: «من ضُرِبَ بسَوطٍ ظلمًا، اقتُصَّ منه يوم القيامة»، وقال: «لَتُؤَدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاةِ الجَلْحاء من الشاة القَرْناء»، فإذا كان هذا حال العجماوات، فكيف بحال العقلاء؟ وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يعذِّب الذين يُعذِّبون الناس في الدنيا»؛ (رواه مسلم).
• ومن صور الظلم: أخذ أموال الناس بالباطل؛ بسرقة أو إتلاف، أو تحايل أو خداع، أو غش أو ربًا، فهو ظلم عظيم، وكم ترتَّب عليه من القطيعة بين الأقارب والجيران والإخوان، وترافعوا إلى المحاكم، وبَقِيَت السنون الطوال في تلك الأماكن! وكذلك من استُؤمن على مال لحفظه، أو استثماره، ثم خان، وتلاعب، وأهمل، وفرَّط، وخدع، وكذب، فالويل له من ذلك المنقلب، والموعد عند الله.
قال أحدهم: اسْتَدَنْتُ من رجل مائتي ألف، وعند حلول الأجل حضر للمطالبة بحقه، فطردته وأنكرت أنه أعطاني شيئًا، ولم يكن قد أخذ مني إثباتًا بذلك، وبعد ثلاثة أشهر خسرت صفقة بقيمة مليون، ومنذ ذلك اليوم والخسارة تلازمني، وقد نصحتني زوجتي بإرجاع المبلغ لصاحبه؛ لأن ما عند الله من العقوبة شديد، ولم أستمع إليها، وتماديت حتى خسرت من أعز ما أملك؛ أبنائي الثلاثة، في حادث سيارة واحدة، وأمام هذا الحدث الرهيب والمصرع، قررت إعادة الحق لصاحبه، وطلبت المسامحة؛ حتى لا يحرمني الله من زوجتي وابني ذي السنوات السبع الذي بقِيَ.
فالاستيلاء على أموال المعصومين بالقوة، أو أراضيهم، أو عقاراتهم، أو تغيير منار الأرض وحدودها وعلاماتها المتفق عليها والمعروفة – ظلمٌ عظيم كذلك.
وقد حَكَت كتب التاريخ عن وزيرٍ ظَلَمَ امرأةً بأخذ مزرعتها وبيتها، فشكَتْهُ إلى الله تعالى، فأوصاها ذلك الوزير الظالم مستهترًا وقال: عليكِ بالدعاء في الثلث الأخير من الليل، فأخذت تدعو عليه شهرًا، فابتلاه الله بمن قطع يده وعزله وأهانه، فمرَّت عليه وهو يُجلَد، فشكرته قائلة:
إذا جارَ الوزير وكاتباهُ ** وقاضي الأرض أجْحَفَ في القضاءِ
فويلٌ ثم ويل ثم ويل ** لقاضي الأرض من قاضي السمـــاءِ
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله من غيَّر منار الأرض»؛ أي: من غيَّر الحدود المتعارف عليها بين أرض فلان وأرض فلان.
• ومن صور الظلم، بل من أشد أنواع الظلم، ما يقع من الأقارب.
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً ** على النفسِ من وَقْعِ الحسام المهنَّدِ
ظلم الوالدين بالعقوق والعصيان، أو السخرية والتعنيف، وظلم الأولاد والبنات بتركهم فريسةً لرًفقاء السوء، أو بعدم حثِّهم وتربيتهم على الصلاة والقرآن، أو بضربهم ضربًا مبرحًا، وإهانة كرامتهم وسبهم، ولعنهم، والدعاء عليهم، وضرب الزوجات وإهانتهن وإهدار حقوقهن وكرامتهن لأتفه الأسباب؛ وقد قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وقال عليه الصلاة والسلام: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».
وظلم الأيتام بأخذ أموالهم بالحيلة أو الغصب أو نحو ذلك؛ وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
• ومن صور الظلم الشنيعة: السِّحر، الذي يفرِّق بين الزوج وزوجه، وبين الأخ وأخيه، فكم شتَّت من أُسَرٍ! وكم أبكى من عيون! وكم أمرض من أصحِّاء! وكم شرَّد من أناس! وكم رمَّل من نساء! وكم أزهق من أرواح! وكم زرع من شِقاق ونزاع! ولهذا جعله رسول الله من السبع الموبقات التي تحبط على الإنسان عمله، وكفَّر الله صاحبه في القرآن؛ فقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] فتعلُّم السحر وتعليمه وعمله كفرٌ بالله تعالى، وشِرْكٌ عظيم، و «من أتى ساحرًا فصدَّقه بما يقول، فقد كَفَرَ بما أُنزل على محمد»؛ كما قال رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام.
عباد الله، إن من أعجب العجب ما يحدث كثيرًا في المحاكم من المظالم التي لا تخفى على أحدٍ منكم، يذهب الظالم إلى المحكمة وهو يدري أنه ظالم، ثم يُوكِّل له محاميًا وهو يدري أنه ظالم كذلك، ثم يشتري له شهود زُورٍ وهم يعلمون وهو يعلم أنه ظالم، ثم يَرشو القاضي وهو يعلم أنه ظالم.
لماذا كل هذا؟ لكي يشتري غضب الله عليه ومَقْتَه وعذابه له، فهل رأيتم أعجب من شخص يشتري عذاب الله وغضبه بأمواله؟ اللهم سلِّمنا وعافِنا يا لطيف.
عن عبدالرحمن بن عبدالله عن أبيه، قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَرَةً – نوع من الطيور – معها فَرْخان، فأخذنا فَرْخَيها، فجاءت الحُمَرَة، فجعلت تُرفرف، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من فجع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها»؛ (أخرجه أبو داود، وصححه الأرنؤوط).
وعن عبدالله بن جعفر قال: ((أردَفَني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خَلْفَه، ثم دخل حائطًا من حيطان الأنصار، فإذا جَمَلٌ قد أتاه فَجَرْجَرَ، وذرفت عيناه – قال بهز وعفان: فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ وذَرَفت عيناه – فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرَاتَهِ وذِفْراه، فسكن، فقال: «من صاحب الجمل» ؟ فجاء فتًى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: «أمَا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكَكَها الله، إنه شكا إليَّ أنك تُجيعه وتُدْئِبه»؛ (أخرجه أحمد، وصححه الشيخ مقبل)، فكيف بمن يظلم أخاه المسلم لأنه عامل عنده في متجره، أو مزرعته، أو أجيرٌ أو سائق أو أي موظف، فيكلفه فوق طاقته، أو يحرمه من حقوقه، وهو إنسان، بل ومسلم، وليس حيوانًا ولا طائرًا؟
قال سفيان الثوري: “إن لقِيتَ الله بسبعين ذنبًا فيما بينك وبينه تعالى أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد”، وذلك أن الله يسامح ويغفر لمن يشاء، لكن حقوق العباد لا مسامحة فيها؛ لأن الله تكفَّل أن يوفِّيَ أصحابَ الحقوق حقوقَهم يوم الدين، ولا تضيع عند الله؛ وقال أبو بكر الوراق رحمه الله: “أكثر ما ينزِع الإيمان من القلب ظلم العباد”.
تحدثت إحداهن – وهي أستاذة جامعية ومطلَّقة مرتين – فقالت: حدثت قصتي مع الظلم قبل سبع سنوات، فبعد طلاقي الثاني قررت الزواج بأحد أقاربي الذي كان ينعَم بحياة هادئة مع زوجته وأولاده الخمسة؛ حيث اتفقت مع ابن خالتي – الذي كان يحب زوجة هذا الرجل – اتفقنا على اتهامها بخيانة زوجها، وبدأنا في إطلاق الشائعات بين الأقارب، ومع مرور الوقت نجحنا؛ حيث تدهورت حياة الزوجين وانتهت بالطلاق.
وبعد مُضِيِّ سنة، تزوجت المرأة – التي طُلِّقت بسبب الشائعات – برجل آخر ذي منصب، أما الرجل فتزوج امرأة غيري، ومن ثَمَّ فلم أحصل مع ابن خالتي على هدفنا المنشود، ولكنا حصلنا على نتيجة ظلمنا؛ حيث أُصِبْتُ بسرطان الدم.
أما ابن خالتي، فقد مات حرقًا مع الشاهد الثاني؛ بسبب التماس كهربائي في الشقة التي كان يقيم فيها، وذلك بعد ثلاث سنوات من القضية.
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52].
وشخص آخر اسمه (حمد) يقول: عندما كنت طالبًا في المرحلة الثانوية، حدثت مشاجرة بيني وبين أحد الطلاب المتفوقين، فقررت – بعد تلك المشاجرة – أن أدمِّرَ مستقبله، فحضرت ذات يوم مبكرًا إلى المدرسة، ومعي مجموعة من سجائر الحشيش – التي كنا نتعاطاها – ووضعتها في حقيبة ذلك الطالب، ثم طلبت من أحد أصدقائي إبلاغ الشرطة بأن في المدرسة مروجَ مخدِّرات، وبالفعل تمت الخطة بنجاح، وكنا نحن الشهود الذين نستخدم المخدرات.
يقول حمد هذا: ومنذ ذلك اليوم وأنا أعاني نتيجة الظلم الذي صنعته بيدي، فقبل سنتين تعرضت لحادث سيارة فقدت بسببه يدي اليمنى، وقد ذهبت للطالب في منزله أطلب منه السماح، ولكنه رفض لأنني تسببت في تشويه سمعته بين أقاربه، حتى صار شخصًا منبوذًا من الجميع، وأخبرني بأنه يدعو عليَّ كل ليلة؛ لأنه خسر كل شيء بسبب تلك الفضيحة، ولأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، فقد استجاب الله دعوته، فها أنا بالإضافة إلى يدي المفقودة أصبحت مُقْعدًا على كرسي متحرك نتيجة حادث آخر، ومع أني أعيش حياة تعيسة، فإني أخاف من الموت لأني أخشى عقوبة رب العباد.
لا تظلمَنَّ إذا ما كنت مقتدرًا ** فالظلمُ مصدره يفضي إلى الندمِ
تنام عيناك والمظلوم منتبـهٌ ** يدعو عليك وعينُ الله لم تَنَــــمِ
فعليك -أيها المظلوم- ألَّا تظن أن الله تعالى غافل عن مظلمتك، أو لن يأخذ حقك ممن ظلمك، فالله تعالى هو الحَكَمُ العدل، ولا يظلم ربك أحدًا، فلا تيأس ولا تحزن؛ فإن الله معك، فكن صابرًا على بَلِيَّتِك، واثقًا بربِّك، مستبشرًا بأن ظالمك لن يهنأ بعَيشٍ، وفي كاهله أثقال المظالم، بل سيعيش في شقاء وتعاسة، وضيق وسجن نفسي، لا يخرج منه، حتى يخرج من المظالم، ويتوب من المآثم، أو يأخذ جزاءه عاجلًا أم آجلًا.
فالحذرَ الحذرَ -عباد الله- من الظلم بكافة أشكاله وصوره، وعلى من ظلم غيره أن يعجِّل بالتوبة النصوح قبل فوات الأوان، وحلول الأجل.
اللهم أجِرْنا من الظلم، ما ظهر منه وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك أن نَظْلِم أو نُظْلَم.
__________________________________________________________
الكاتب: سمير علي محمد غياث
Source link