الابتلاء بالسراء والنعمة {ليبلوني أأشكر أم أكفر}

الدنيا دار ابتلاء واختبار، وليست دارَ جزاءٍ وإكرام؛ وتذكر دائمًا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}

قد تَمُرُّ في طريقك بأحدٍ ما مبتلًى بفقد حاسة من حواسِّه كالبصر أو السمع، وتتأثر بذلك، وتُشفق عليه وتقول في نفسك: (الحمد لله الذي عافني مما ابتلاه به)، وقد تسمع عن شخص من معارفك مبتلًى بمرض شديد، أو حادث سير يقعده في الفراش إلى أن يموت، فتحزن عليه، وتتمنى له الشفاء، وتدعو له، وتحمَد الله أن عافاك من هذا الابتلاء الصعب، وغيرها وغيرها من أحوال الْمُبْتلين في الأموال أو الأنفس أو الثمرات.

 

ولكنك في كلِّ هذا تنسى أنه كما أن الله اختبر هذا الشخص بابتلاء الضراء والشدة، فإنك في نفس اللحظة مختبرٌ بابتلاء العافية من هذا المرض الذي ابتُلِيَ به، ومبتلًى باختبار الغِنى، في حين أن الآخر ابتُلِيَ بالفقر والبأساء، وأنك مبتلًى باختبار ونعمة الولد التي حُرِم منها غيرك.

 

ولا يتفطَّن لهذا إلا أهل اليقظة الذين يعلمون أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وليست دارَ جزاءٍ وإكرام؛ يتذكر دائمًا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وتـأمل كيف أن الشر فتنة وبلاء بنص الآية، والخير كذلك؛ عن ابن عباس: قوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} [الأنبياء: 35]، يقول: “نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسُّقم، والغِنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة”.

 

ومن يتأمل قوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] في تفسير الطبري يقول: “واختبرناهم بالرخاء في العيش، والسَّعَةِ في الرزق، وهي الحسنات، ويعني بالسيئات: الشدة في العيش، والشَّظَف فيه، والمصائب والرزايا في الأموال”، يعلم أنه كما أن اختبار الضراء والشر يكون إما بالصبر أو بالسخط والجزع، فإن اختبار السراء يكون إما بشكر النعمة والاعتراف لله بها، واستخدامها في طاعته، وإما بكفرها واستخدامها في معصية الله.

 

يتذكر دائمًا أن النبي قال: «إن أمر المؤمن دائمًا خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له».

 

يتذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام كما تعوَّذ بالله من فتنة الفقر، فإنه تعوَّذ بالله من فتنة الغِنى، فالغِنى قد يؤدي بالإنسان إلى البَطَرِ والكِبْرِ والطغيان، والتعالي على الناس، وصرف المال في المعاصي، وعدم إخراج الزكاة، كما أن الفقر قد يؤدي بالإنسان إلى الجزع والسخط على أقدار الله.

 

فيتذكر دائمًا قول سيدنا سليمانَ لما رأى عرش بلقيس مستقرًّا عنده: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]، فعلِم أن ما فيه من نِعَمٍ وتسخير للجن إنما هو من فضل الله، وليس من عند نفسه، وعلِم أنه ابتلاء واختبار ليرى الله منه، هل سيشكر أم سيكفر بنعم الله؟

 

قد يظنُّ الظانُّ أن الابتلاء يكون دائمًا بالضراء والصِّعاب، والأمراض والمحن والمشاكل، وغيرها من الابتلاءات، ولكن يغفُل عن أن النعمة والسراء ابتلاء أيضًا، ولكن يغفُل عنه الكثيرون.

 

ولو تتبعنا كتاب الله وسنة نبيه، لعلِمنا أن الابتلاء بالسراء له شواهدُ كثيرة، وقد يكون اختبارًا أصعبَ من الابتلاء بالضراء.

 

ألم يخبرنا الله أننا سنُسأَلُ عن النعيم؛ كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]؟ قال السعدي في تفسيره: “{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] الذي تنعَّمتم به في دار الدنيا، هل قمتم بشكره، وأدَّيتم حقَّ الله فيه، ولم تستعينوا به على معاصيه، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل، أم اغتررتم به، ولم تقوموا بشكره؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله؛ فيعاقبكم على ذلك”.

 

كل نعمة وإكرام من الله لك هي ابتلاء؛ المال، والرزق الواسع، والعلم، والجمال، والصحة، والشهادات، وسلامة الأعضاء، وقوة البدن، والسلطة، والوظيفة، والذكاء، والجاه، والعقل، والسمع، والبصر، والمواهب والمهارات، والزواج، والأولاد، وغيرها من النعم كلها ابتلاءات يبتليك الله بها؛ لينظر هل ستُطيع الله فيها، وتنسُب الفضل له فيها، وتشكره عليها باللسان والجَنان أم لا؟ هل ستسخرها لخدمة دينك وآخرتك أم ستلهيك وتغرك، فتتكبر بها على من لا يملكها؟

 

تأمل قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15]، تأمل قوله تعالى: {ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} [الفجر: 15]، ألَا يدل على أن النعمة والإكرام ابتلاء للإنسان؟!

 

أما قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، فإنه يدل على أن الاستخلاف في الأرض، ورفع الدرجات، وإيتاء النِّعم اختبارٌ من الله لنا؛ لينظر كيف نعمل فيها.

 

قال ابن كثير في تفسير الآية: “قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165]؛ أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم، وامتحنكم به، ليختبر الغنيَّ في غِناه، ويسأله عن شكره، والفقير في فقره، ويسأله عن صبره”.

 

وقد روى مسلم في صحيحه، من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حُلوةٌ خَضِرَة، وإن الله مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء».

 

حتى الماء الكثير النافع اختبارٌ وفتنة من الله؛ قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 16، 17].

 

التمكين في الأرض والنصر على الأعداء ابتلاء، كما أن الاستضعاف ابتلاء، لما اشتكى بنو إسرائيل لسيدنا موسى ما يلاقونه من استضعاف ومهانة وعذاب من فرعون وجنوده؛ قال لهم سيدنا موسى راجيًا لهم النصر والتمكين والاستخلاف في الأرض: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]؛ أي: يمكِّنكم فيها، وينظر كيف تعملون في هذا التمكين، هل ستكفرون أم تشكرون؟ قال تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} «»  ﴾ [الأعراف: 129].

 

ومن الآيات التي يجب أن تكون منهجَ حياةٍ لنا خاصةً في زماننا هذا، الذي يكثُر فيه تباهي الناس وتفاخرهم بالدنيا قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].

 

استمتع معي بتفسير السعدي للآية؛ قال رحمه الله: “أي: لا تمد عينيك معجبًا، ولا تكرر النظر مستحسنًا إلى أحوال الدنيا والممتَّعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجمَّلة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعرِضين، ويتمتع بها – بقطع النظر عن الآخرة – القوم الظالمون، ثم تذهب سريعًا، وتمضي جميعًا، وتقتل محبيها وعُشَّاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارًا، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملًا”.

 

كما في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]؛ قال الطبري: “يقول عز ذكره: إنا جعلنا ما على الأرض زينة للأرض؛ {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، يقول: لنختبر عبادنا أيهم أتْرَكُ لها وأتبع لأمرنا ونَهْيِنا، وأعمل فيها بطاعتنا”.

 

تخيل معي كل ما على الأرض من زينة هي اختبار وابتلاء وفتنة؛ ليرى الله من يُحسن استخدامها في طاعته، ومن سينشغل بها عن ذكره وشكره، فتغرُّه بغرورها، وتفتنه بفتنتها، فكل ما على الأرض من أموال ومساكن، وبيوت وقصور، ومآكل ومشارب، وحدائق وثمار وزروع، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل والأنعام وغيرها، كل ذلك مجرد متاع زائل، واختبار فقط، وسيجعلها ربي صعيدًا جرزًا؛ أي ترابًا.

 

ألم تكن الجنتان بما فيها من أعناب ونخيل، وزرع ونهر وثمر فتنةً واختبارًا لصاحب الجنتين، جعلته يتكبر بماله وولده، ويظن ألَّا تبيد ولا تهلك، وجعلته يكذب بقيام الساعة؟!

 

ألم يكن مال قارون وثروته فتنة له وابتلاءً، جعله يقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]؟!

 

ألم يكن ملك فرعون فتنة له، جعله يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51]؟!

 

ألم يكفر قوم سبأ بنعمة الله من الجنات والبساتين العامرة بالزروع والثمر الوفير، فلم يشكروها، بل ملوها وجحدوها، وطلبوا أن يباعد الله بين أسفارهم؟!

 

فأرسل عليهم الله السيل الجارف الشديد الذي أغرق البساتين، وبدلَّهم بجنتيهم المثمرتين جنتين بهما القليل من الأشجار غير النافعة؛ بسبب كفرهم وجحودهم لنعمة الله.

 

قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 16].

 

في تفسير السعدي: “فأعرضوا عن الْمُنْعِم، وعن عبادته، وبطروا النعمة، وملُّوها، حتى إنهم طلبوا وتمنَّوا، أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى، التي كان السير فيها متيسرًا.

 

{وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [سبأ: 19] بكفرهم بالله وبنعمته، فعاقبهم الله تعالى بهذه النعمة، التي أطْغَتْهم، فأبادها عليهم، فأرسل عليها سيل العرم”.

 

هل سمعت بقصة الأبرص والأقرع والأعمى، الذين اختبرهم الله بإزالة الأمراض التي بهم، وإعطائهم المال الوفير من الأغنام التي يختارونها ويحبونها، حتى زاد المال عندهم وفاض، ثم جاءهم الْمَلَكُ مرة أخرى ليختبرهم، وطلب منهم بعض المال ليستعين به في سفره، فبخِل الأبرص والأقرع، وتعلَّلوا بكثرة النفقات، ولم يعطوه شيئًا، ولم ينسُبوا الفضل لله، بل قالوا: إنهم ورِثوا هذا المال كابرًا عن كابر، فرجعوا إلى ما كانوا عليه من الفقر والمرض، بعكس الأعمى الذي نجح في الاختبار، ولم يبخل بمال الله الذي أعطاه، ونسب الفضل لله فيما عنده؛ فحفِظ الله عليه ماله؟

 

وهذه القصة العجيبة من أفضل القصص التي نستدل بها على أن الابتلاء بالسراء والنعمة قد يكون أصعب بكثير من الابتلاء بالضراء والشر، عند كثير من الناس؛ لأن الابتلاء بالضراء يكون واضحًا لكثير من الناس، فيجعله يلجأ إلى الله، ويستعين به، ويدعوه ويتضرع إليه، ويتبرأ من حوله وقوته، وينكسر لله، أما الابتلاء بالسراء عند معظم الناس إلا من رحم الله يجعلهم يتكبرون بما عندهم، ويفرحون به، ولا ينسُبون الفضل فيه لله؛ كما قال تعالى في عديد الآيات؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].

 

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8].

 

وقال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49].

 

قال السعدي في تفسيره للآية: “يخبر تعالى عن حالة الإنسان وطبيعته، أنه حين يمسه ضر، من مرض أو شدة أو كرب، {دَعَانَا} مُلِحًّا في تفريج ما نزل به، {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا}، فكشفنا ضره، وأزَلْنا مشقَّته، عاد بربه كافرًا، ولمعروفه منكرًا، و{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}؛ أي: علم من الله، أني له أهلٌ، وأني مستحق له، لأني كريم عليه، أو على علم مني بطرق تحصيله؛ قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} يبتلي الله به عباده، لينظر من يشكره ممن يكفره، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49]، فلذلك يعدون الفتنة منحة، ويشتبه عليهم الخيرُ المحض، بما قد يكون سببًا للخير أو للشر”.

 

تخيل أناسًا يركبون سفينة في وسط البحر، ثم إذا بالريح تشتد، والأمواج تعلو، والسفينة تتأرجح يمنة ويسرة، كيف يكون حال قلوبهم في هذا البلاء؟ كيف يكون تضرعهم ودعاؤهم وابتهالهم إلى الله؟

 

ستلهج قلوبهم قبل ألسنتهم بذكر الله وتوحيده، فلا عاصم وقتها من أمر الله إلا هو سبحانه، سيعاهدون الله أنه إذا نجاهم بسلام فسيتركون ما كانوا عليه من معاصٍ وذنوب، وسيرجعون إلى الطريق المستقيم، ويتوبون إلى الله توبة نصوحًا.

 

ولكن هل إذا نجَّاهم الله، وخلَّصهم من هذا الكرب برحمته، سيُوفُّون بالعهد الذي عاهدوا الله به؟ تعالَوا لنسمع ماذا قال الله عنهم؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 22، 23].

 

وقال أيضًا: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].

 

وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

 

قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 63]، فلما نجاهم الله من هذا الكرب، هل شكروا ربهم كما وعدوه؟ استمع للآية التي بعدها: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64]، لم يشكروا بل أشركوا بالله، انظر كيف جعلهم البلاء يتضرعون ويدعون الله، ثم لما انتهى ومَنَّ الله عليهم برحمته، أشركوا معه غيره.

 

فيبدو أن هذا ديدنُ الكثير من الناس، البلاء يجعله يلجأ إلى الله لأنه يشعر بضعفه وحاجته إليه، أما النعمة والسعة في الرزق تُطغيه وتُنسيه فضلَ الله عليه.

 

لذلك قد يكون الاختبار والفتنة بالنعم والمسرَّات أشدَّ من الابتلاء بالبلايا والكربات.

 

والابتلاء كما يكون بالضراء، فيكون أيضًا بالنعمة والسراء، لا بد أن ننتبه لِما يعطينا الله من نِعَمٍ ونشكره عليها، ولا نجحدها ونعترف له بها، ونستخدمها في مرضاته؛ لننجح في هذا الاختبار، ونكون من الفائزين في جميع الاختبارات بفضل من الله.

 

فتذكر دائمًا؛ إذا أنعم الله عليك بأي نعمة في جسدك أو مالك أو ولدك قولَ سيدنا سليمان: {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40].

______________________________________________
الكاتب: سمر سمير


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح دعاء الهم والحزن – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبُخْلِ والجُبْنِ، وضَلَعِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *