فكلُّ عبادة فَرَضَها الله على المسلمينَ، ليس المقصود منها مُجَرَّد هَيْكلها المادي وصورتها الظَّاهريَّة، وإنَّما المقصود منها روحها ولبُّها، الذي يُهَذِّب الخُلُق، ويصلح النَّفس، ويُباعد بينها وبين الشُّرور والآثام.
روى البخاري، وأبو داود، عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله – صَلَّى الله عليه وسلم – قال: «مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدعَ طعامَه وشرابه».
الزُّور: الكَذِب، والبُهتان، والافْتراء، واللَّفظ مأخوذ منَ الزور، والازْوِرار: أي المَيْل والانْحِراف، يُقال في اللُّغة العربيَّة: ازْوَرَّ عنِ الشَّيء، وتزاور عنه؛ أي مال وانْحَرَف، ومنه التَّزوير، وهو: زخرفة القول، والانحراف به عنِ الحق، وسُمِّيَ الكَذِبُ زورًا؛ لأنه ميل عنِ الصِّدق، وانحرافٌ عن مُطَابقة الواقع، وقد جاء لفظ الزُّور في القرآن الكريم في أربعة مواضع:
ففي سورة الحـج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].
وفي سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4].
وفي سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].
وفي سورة المُجادلة: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2].
وهذا الهَدْي النَّبَوي الحكيم، فيه إرشادُ الصائم إلى ما ينبغي أن يَتَخَلَّقَ به، وأن يتخذه شعارًا لِعِبادته، وفيه إرشاد المسلم إلى أنَّ العبادات ما هي إلاَّ وسائل لِصَلاح حال الناس، وأمن كل فرد على نفسه، وعِرضه، وماله، وكُل حقوقه.
فكلُّ عبادة فَرَضَها الله على المسلمينَ، ليس المقصود منها مُجَرَّد هَيْكلها المادي وصورتها الظَّاهريَّة، وإنَّما المقصود منها روحها ولبُّها، الذي يُهَذِّب الخُلُق، ويصلح النَّفس، ويُباعد بينها وبين الشُّرور والآثام.
فليس المقصود منَ الصلاة مُجَرَّد قيام، وقُعُود، ورُكُوع، وسُجُود، وتكبير، وتسبيح؛ وإنما المقصود منها استحضار ألوهيَّة الواحد الأحد، وتَذَكُّر عظمته وقدرته، ونعمته ورحمته، وبِهَذا الذِّكر الدائم المُتَكرر كل يوم يخشى المسلم عذاب ربِّه، ويرجو رحمته، وعن هذا الخوف والرَّجاء يُقاوم نفسَه الأَمَّارة بالسُّوء، وينتهي عنِ الفَحْشاء والمُنْكر.
وليس المقصود منَ الصَّوم مُجَرَّد الكَفِّ عن شَهْوَتَي البطن والفَرْج، مِن قبيل طُلُوع الفجر إلى غُرُوب الشَّمس، وإنما المقصود منه السُّمُو بالنَّفس إلى المستوى الملائكي، وصَوْن الحواس، عنِ الشُّرور والآثام، فالكفُّ عنِ الطَّعام والشَّراب ما هو إلاَّ وسيلة إلى كَفِّ اللِّسان عنِ السَّبِّ، والشَّتْم، والصخب، وإلى كف اليد عنِ الأذى، وإلى كف البَصَر عنِ النَّظرة الخائنة، وإلى كفِّ السَّمع عنِ الإصغاء للغيبة والنَّميمة وقول المُنْكر.
فالمقصود منَ الصِّيام أن يكونَ رياضة، تحدُّ مِن ثورة النَّفس البهيميَّة؛ لتُقَوِّي في الإنسان ناحية الملائكيَّة، والشِّعار الملائكي: لا فُحش، ولا مُنكر، ولا زور، ولا كَذِب، ولا أذى، وعن هذا عَبَّر سول الله – صلى الله عليه وسلم – بِقَوله: «مَن لَمْ يَدَع قول الزُّور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدعَ طعامَه وشرابه» ؛ لأنَّه إذا ترك طعامه وشرابه، وما ترك كذبه، ولا افتراءه، ولا غِشَّه، ولا تدليسه، ولا إيذاءه، فقد جاع وما صام، وحَقَّق الهيكل المادي للصوم، وأهمل روحه، وعني بالصُّورة الشَّكليَّة الظاهرة، وما عني بالكلمة الإلهيَّة المقصودة، والله غنيٌّ عنِ العبد وعبادته، وما كلف عبده بما كلفه إلاَّ لِمَصلحة العباد أنفسهم، فإذا كانت عبادتهم مُجَرد صور وأشكال، فهيَ لا تُحَقِّق ما قَصَده الله مِن تَعَبُّدهم بها.
وما أبلغ قول الرَّسول – صَلَّى الله عليه وسلم -: «مَن لم يدع قول الزُّور والعمل به» ؛ لأنَّ الزُّور – أي: الكَذِب والافتراء – كما يكون بالقول، يكون بالعمل، فالكذب – ودعوى الإنسان ما ليس حقًّا له – وإنكار ما هو حق عليه، وشهادة الإنسان بِغَير الحق، وكل ما يقوله الإنسان وهو باطل غير مُطَابق للواقع، هو مِن قول الزُّور، والغِش، والتَّدليس، وتلفيق التُّهَم على الأبرياء، والسَّعي بالفساد بين الناس، وكل عمل هو مَيْل عنِ الحق، هو منَ العَمَل بالزُّور، والمقصود منَ الصِّيام الكَفُّ عَنْ قول الزُّور، وعمل الزُّور.
ورُب قائل: لماذا خَصَّ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – قول الزُّور والعمل به، مع أن سائر الشُّرور والآثام مثله، وعلى الصَّائم أن يَدَعها، ويكف عنها جميعًا؟
ولنا في الجواب عن هذا السؤال طريقان:
فإمَّا أن يكونَ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – قد خَصَّ قول الزُّور تعظيمًا لأمره، وقد جاء في الصَّحيح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ألا أخبركم بأكْبَر الكبائر» ؟، قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: «الشِّرك بالله، وعُقُوق الوالدين» – وكان مُتَّكئًا فَجَلس – وقال: «ألا وشهادة الزُّور، ألا وقول الزور».
وإمَّا أن يكونَ المراد بالزُّور معناه اللغوي، وهو الميل والانحراف عنِ الحق والطريق المستقيم، بِقَول أو عمل، ولا ريب في أنَّ كلَّ إثم قولي أو عملي، هو انحرافٌ عنِ الجادَّة، فهو زُور، فكأنَّ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – قال: مَن لم يدع كل ميل عنِ الصِّراط المستقيم بِقَول أو عمل.
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «فليس لله حاجة في أن يَدَع طعامه وشرابه» ، كناية عن أنَّ صومَه ليست له ثمرة؛ لأنَّ الله – سبحانه – لا يكلف المسلم بأن يصوم؛ لأنه يقصد أن يشق عليه بالجوع والعطش، وإنما يشق عليه بالجُوع والعَطَش ليُدَاويه من أمراض نفسيَّة، وآفات خلقيَّة، فإذا جاع وعطش ونفسه على مرضها وسوئها، فما حَقَّقَ حكمة الله في التَّكليف.
ويُؤَيِّد هذا ما رواه الحاكم وصَحَّحه، من أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ليس الصِّيام منَ الأكل والشُّرب، إنما الصِّيام منَ اللَّغو والرَّفَث» ، وما رواه الحاكم وصَحَّحه من أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «رُب صائم حَظه مِن صيامه الجوع والعطش، ورُب قائم حظه من قيامه السَّهَر».
وهذا الحديث يُقَرِّر أصلاً ثابتًا مِن أصول الدين، هو أنَّ العبادة لا تَتَحَقَّق على الوجه الأكمل، بِمُجرد استكمال أركانها وشروطها، التي تَتَكَوَّن منها صورتها، وإنما تَتَحَقَّق على الوجه الأكمل، باسْتِكمال أركانها وشروطها التي تَتَكَوَّن منها صورتها، بِمُراعاة حكمتها وروحها وسرها، التي يَتَحقق بها الغَرَض المقصود للشَّارع منها، ويلفت إلى ما ينبغي أن يكون عليه الصَّائم من صون اللِّسان عنِ الكَذِب والزُّور، وكف لِجَوارحه عنِ الشُّرور، وإلى أنه كما يجب عليه أن يَتَحَرَّجَ من وصول طعام أو شراب إلى جوفه، يجب عليه أن يَتَحَرَّجَ من صدور منكر منَ الأقوال والأفعال منه، ولَعَلَّه إذا قهر نفسه الأَمَّارة بالسُّوء، وسلم الناس من لِسَانه ويده في رمضان، اعتاد هذا الخير، وكان لِرَمضان أثره المحمود في نفس الصَّائم في عامِه كله، وفي عُمره كلِّه.
Source link