منذ حوالي ساعة
الإنسانية عاطفة سامية، لا تعرف وطناً ولا قوماً ولا جنساً ولا لوناً، بل ينضوي تحت جناحها العالم الإنساني كله
إزاء ما يحدث من محاولات تشويه متعمد من قبل العالم الغربي لديننا؛ من خلال رموزه العظام، ومن خلال مهاجمة مبادئه، فإن المسؤولية تكبر على أهل هذا الدين العظيم، بأن يقدموا الرؤية الصحيحة له، في كل ميدان من ميادين الحياة، والأدب هو مرآة الحياة، ولسانها الصدوق.
ولعل قضية (الإنسانية) من أبرز سمات دين نزل رحمة للناس كافة، وليس لعرق ولا لون ولا لقوم. و(الإنسانية): مصدر صناعي من كلمة “إنسان”، وهي كلمة لم تُعرف (إلاّ في عصرنا الحديث، بعد أن اتصلنا بالمعارف الإنسانية، واقتبسنا من علومها وآدابها وفنونها…، وشاع استعمالها كثيراً في أدبنا المعاصر، بعد أن… أخذ يهتم بالإنسان وقضاياه العادلة) (د.مفيد قميحة).
والإنسانية عاطفة سامية، لا تعرف وطناً ولا قوماً ولا جنساً ولا لوناً، بل ينضوي تحت جناحها العالم الإنساني كله؛ مما جعلها ـ كما قال المنفلوطي ـ رحمه الله ـ: (أقرب الجامعات إلى قلب الإنسان، وأعلقها بفؤاده، وألصقها بنفسه؛ لأنه يبكي لمصاب من لا يعرف). ويتمنى الخير والسلام لكل البشر.
ولا تعارض: أن يكون لدى المسلم انتماء أكبر وأساس إلى دينه وأمته، وأن يكون له ـ مع ذلك ـ (انتماءات وولاءات صغرى وفرعية، تلي الانتماء الإسلامي، و لا تتعارض معه… والفطرة الإنسانية تشهد على أن للإنسان منا ولاء وانتماء إلى (الأهل) بمعنى الأسرة والعشيرة، وإلى (الشعب) في الوطن والإقليم الذي تربى فيه، وإلى (الأمة)/ الجماعة التي يتكلم بلسانها، ويشترك معها في الاعتقاد الديني، ثم إلى الإنسانية، التي خلقه الله وإياها من نفس واحدة) (د.محمد عمارة). يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [سورة الحجرات: 13].
ولا تضاد بين هذا المفهوم الشامل للإنسانية وبين (الإسلام) ديناً، يحمل عقيدة (الولاء) لأهله ومن ينضوي تحت رايته، وعقيدة (البراء) من غيرهم؛ ذلك لأنه لا يتعامل مع الإنسان الذي لا يواليه على أنه عدوه، إلاّ إذا أعلن الحرب عليه. بل يتعامل مع الإنسان على أنه مبتغاه، وهدفه الذي يريد أن يصل به إلى مستوى مرموق من الحياة العزيزة الكريمة؛ فهو يهدف إلى تحرير الإنسان ـ أياً كان جنسه أو لونه أو أرضه ـ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وإنقاذه من مناهج البشر المتخبطة إلى المنهج الذي ارتضاه له خالقه كما يريد سبحانه {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الملك: 14].
ولم يكن كثير من شعراء العربية من قبل (يفكرون فيما حولهم، ولم تكن مشاكل المجتمع ولا مشاكل البشرية ميداناً لأقلامهم، فلما … [أصبحنا في العصر الحديث]، ووجدنا أنفسنا بإزاء مشاكل إنسانية مختلفة، أخذ شعراؤنا يوجهون إليها نشاطهم الفكري، وأخذت تعمل في صميم قلوبهم؛ فإذا شاعرنا لا يعيش لنفسه، وإنما يعيش لمواطنيه، وقد يمتد بصره إلى مثل أعلى، فيعيش للإنسانية كلها، وهو في ذلك كله ينفصل عن عالم الذاتية والفردية، ويلحق بمحيط أوسع، يتصل فيه بالناس ممن حوله، وممن هم بعيدون عنه)) (د.شوقي ضيف).
فراح ينادي كل البشر إلى المبادئ السامية، والمثل العليا، والإخاء الإنساني. ورفع صوته بالدعوة إلى المساواة بين الأجناس، والحرية بجميع صورها في إطارها الصحيح، وحارب الجهل والتخلف، وشارك المحرومين والمقهورين في الثورة على الطغيان والظلم بكل أشكاله. وخاض المعركة ضد الحروب العدوانية على البشرية الآمنة تحت راية السلام البيضاء.
وكان لرواد الأدب الإسلامي في العصر الحديث نصيب في هذا التدافع الإيجابي مع الإنسانية بشكل عام، فإن الأدب الإسلامي أدب إنساني بطبيعته؛ إذ (هو في جوهره أدب الاستشراف والتسامي بالنفس الإنسانية. إنه أدب يستلهم القرآن الكريم في بناء الإنسان؛ ذلك أن الإسلام يحمل بذور تغيير جذري على مستوى الإنسانية كلها، ولذلك أضفى على التيار الذي سيسود الفكر العالمي، والأدب الإنساني، العقيدة السامية، التي لا تكف أبداً عن إلهام الفكر والأدب …) (رجاء جار ودي).
ويعلل الشعراء لوجود هذه المشاعر الإنسانية في أنفسهم، بأنها الهموم الكبيرة التي حملوها منذ طفولتهم وشبابهم؛ هم أسرهم ثم هم أوطانهم ثم هم أمتهم، ثم هم الإنسانية الذي تولّد نتيجة لاتساع دائرة هذه الهموم، فنقلتهم من المستوى الأدنى الذي يجعل الإنسان يعيش لذاته وشهواته؛ إلى المستوى الأسمى الذي يميز الإنسان.
ـــــــــ
د.خالد بن سعود الحليبي، مجلة الإسلام اليوم ( 29/11/1427هـ، 20/12/2006).
Source link