واليوم تحتاج أُمَّتُنا حاجةً ماسَّة لسلوك أسباب الهداية والثبات عليها، في ظل مكائد أعدائها التي لا تنقضي عبر الدهور والأزمان، مكائد ماكرة خبيثة تستهدف زعزعة إيمان الأمة بدينها
الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، الهادي البشير والسراج المنير، أرسله الله رحمةً للعالمين، وهدايةً للناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى، فمن اتقى ربه نجا، ومن اتبع هواه غوى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
معاشر المؤمنين:
الهداية غاية الْمُنى وأسمى المطالب، فبدونها يتيه المرء في سبل الضلال، ويكون في عداد الضالين: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178].
وأصل الهداية وقاعدتها وغايتها:
الهداية للإيمان بالله وتوحيده وعبادته، وسلوك صراطه المستقيم التزامًا بما أمر، واجتنابًا لِما نهى، والثبات على تعاليم دينه وأحكام شريعته، والتزام منهجه وابتغاء مرضاته؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].
واليوم تحتاج أُمَّتُنا حاجةً ماسَّة لسلوك أسباب الهداية والثبات عليها، في ظل مكائد أعدائها التي لا تنقضي عبر الدهور والأزمان، مكائد ماكرة خبيثة تستهدف زعزعة إيمان الأمة بدينها، والاعتزاز برسالتها وحضارتها، ولا سيما أجيال الشباب، بسَيلٍ من الشهوات الْمُهْلِكة، والشُّبُهات الْمُضلِّلة، ويزداد الخبث والمكر لهذه المكائد عندما تنفُث سمومها بلسان عربي مبين، وبأناس من بني جِلْدَتِنا ويتكلمون بألسنتنا، ومنهم من تلبَّس لبوس أهل العلم، وزيَّن باطله بشواهدَ يزعُم زورًا وبهتانًا أنها من الشريعة، وما فرية الدين الإبراهيمي ودعوى تسامح الأديان، وشبهة تجديد الخطاب الديني، إلا أمثلة حديثة لتلك المكائد؛ وصدق ربنا جل وعلا إذ يقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
وجاء بعد هذا البيان والتحذير الرباني ذلك الدعاءُ الذي علَّمه الله تعالى لعباده: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، فما هي أسباب الهداية يا عباد الله؟ وما هي سبل الثبات عليها؟ إن أول أسباب الهداية: الاستجابة والطاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهي دليل صدق الإيمان، وصدق إرادة الهداية، والرغبة فيما عند الله جل وعلا؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 24، 25].
وقال تعالى عن طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، وقال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم»؛ (الموطأ).
وقرين ذلك السبب للهداية: الاعتصام بالله تعالى واللجوء إليه؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]؛ قال ابن كثير رحمه الله: “فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية، والعُدَّة في مباعدة الغواية، والوسيلة إلى الرشاد وطريق السداد، وحصول المراد”.
فالتمسك بنصوص الوحي كتابًا وسنة، وعدم الانجرار للشبهات والأقوال التي تزين الباطل، وتهدف لزعزعة التمسك بثوابت الدين وأصوله، هو مما يقي المرء من الزلل والغواية والضلال؛ كما قال جل وعلا: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54]، أما من ارتهنت نفسه للضلال والشبهات، وتفتَّحت أسماعه لكل شاردة وواردة، فقد وقع فريسةً لتزيين سوء عمله؛ قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].
ومن أسباب الهداية – عباد الله – ابتغاء الحق وتحرِّيه وطلبه، ومجاهدة النفس للوصول إليه، والتجرد من أهواء النفس وشهواتها، وهو دليل صدق المرء ورغبته فيما عند ربه؛ قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
ومن أعظم أسباب الهداية: الالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء؛ ولهذا فإننا نقرأ في كل ركعة من كل صلاة في سورة الفاتحة قوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]، وفي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: «يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أَهْدِكم…».
ومن أسباب الهداية الرجوع للعلماء العاملين الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»؛ (الراوي: إبراهيم بن عبدالرحمن العذري، المحدث: الإمام أحمد، المصدر: تاريخ دمشق الصفحة أو الرقم: 7/39، خلاصة حكم المحدث: صحيح).
فهؤلاء هم الذين يُؤخَذ عنهم العلم الذي هو طريق الهداية وسبيلها، وهم أهل الذكر الذين أمرنا ربنا بالرجوع إليهم؛ فقال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ومن أسباب الهداية – عباد الله – مداومة العمل الصالح، وإتباع العلمِ بالعمل؛ قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 – 68].
ومن الأسباب العظيمة للهداية والتوفيق: تلاوة القرآن الكريم، وتدبُّر آياته، والحياة معه، وتقديمه على غيره؛ قال الله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
هدانا الله لما يحب ويرضى، وأعاننا على البر والتقوى، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
معاشر المؤمنين:
إن من أسباب الهداية، وعلى الأخص للشباب، رفقة الصالحين والأخيار، وحسن اختيار الأقران، فكم من ضالٍّ هداه الله على أيدي الصالحين! قال جل وعلا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
وقال صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل».
ومن أجَلِّ أسباب الهداية وأوسع أبوابها خشيةُ الله تعالى، والإنابة إليه جل وعلا؛ قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى: 10، 11]، وقال سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27].
هذه – عباد الله – سبل الهداية وأبوابها لنسلكها، وليكون المنتهى بفضل الله ورحمته في جنات الخلد، وعندها يحمد المؤمنون ربهم: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].
__________________________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي
Source link