الذين لا يرون جواز الاحتفال بالمولد خوفاً من الابتداع في الدين هم أسعد الناس حظاً بمحبة النبي – ﷺ – وطاعته ومحبة أولياء الله الذين ما نالوا تلك الولاية إلا بمحبتهم واتِّباعهم له – ﷺ -، وهم أكثر الناس تمسُّكاً بسُنَّته، واقتفاءً لآثاره
إن مما اهتمت به الصوفية منذ قرون إقامة الموالد التي لم يعرفها السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان. ورغم ما يدعيه أربابها من محاسن لها؛ فقد كان لها من المساوئ وترتَّب عليها من المفاسد ما دفع الاستعمار ووكلاءه وكل عدو متربِّص بنبع الإسلام الصافي؛ إلى أن يحرص على تشجيعها؛ بل يشارك رموز الصوفية في حضورها؛ لذا من المفيد هنا تفنيد أقوى شبهاتهم التي يظنونها أدلة على مشروعية الاحتفال بتلك الموالد؛ حتى لا يغترَّ بها من تطْرُق سمعه.
الشبهة الأولى: أخرج البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوماً – يعني: عاشوراء – فقالوا: هذا يوم عظيم، وهو يوم نجَّى الله فيه موسى، وأغرق آل فرعون، فصام موسى شكراً لله، فقال: « أنا أَوْلى بموسى منهم »، فصامه وأمر بصيامه[1]، فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة.
والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، ولا شك أن مولد النبي والولي من النِّعَم العظيمة التي تستحق الشكر والاحتفال.
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: أصل عمل المولد بدعة لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، وهذا كافٍ في ذمِّ الاحتفال بالمولد؛ إذ لو كان خيراً لسبق إليه الصحابة والتابعون وأئمة العلم والهدى من بعدهم، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: « إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة »[2] .
الوجه الثاني: أن تخريج عمل المولد على حديث صوم عاشوراء لا يمكن الجمع بينه وبين ما بيَّنَّاه من أنه بدعة لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة؛ فإن عدم عمل السلف الصالح بالنصِّ على الوجه الذي يفهمه منه مَنْ بعدَهم؛ يمنع عدَّ ذلك الفهم صحيحاً؛ إذ لو كان صحيحاً فلِمَ يعزب عن فهم السلف الصالح ويفهمه مَنْ بعدَهم؟ كما يمنع عدَّ ذلك النص دليلاً عليه؛ أنه لو كان دليلاً عليه لعمل به السلف الصالح؛ فالاستنباط المذكور مخالف لما أجمع عليه السلف: من ناحية فهمه، ومن ناحية العمل به؛ وما خالف إجماعهم فهو خطأ؛ لأنهم لا يُجمِعون إلا على هدًى.
وقد بسط الشاطبي – رحمه الله – الكلام على تقرير هذه القاعدة في كتابه:
الموافقات في أصول الأحكام[3] .
الوجه الثالث: أن تخريج بدعة المولد على صيام يوم عاشوراء إنما هو من التكلُّف المردود؛ لأنَّ العبادات مبناها على الشرع والاتِّباع، لا على الرأي والاستحسان والابتداع.
فصيام يوم عاشوراء قد فعله النبي – صلى الله عليه وسلم -، ورغَّب فيه، بخلاف الاحتفال بالمولد واتخاذه عيداً؛ فإنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يفعله، ولم يرغّب فيه، ولو كان في ذلك شيء من الفضل لبيَّن ذلك لأمته؛ لأنَّهُ ما من خير إلا قد دلَّهم عليه – صلى الله عليه وسلم – ورغَّبهم فيه، وما من شر إلا قد نهاهم عنه وحذَّرهم منه، والبدع من الشر الذي نهاهم عنه وحذَّرهم منه.
الوجه الرابع: إذا كان المراد من إقامة المولد شكر الله – تعالى – على نعمة ولادة النبي أو الولي؛ فإن المعقول والمنقول يحتِّمان أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول – صلى الله عليه وسلم – ربَّه به؛ كالصوم، غير أن أرباب الموالد لا يصومونه؛ لأنَّ الصيام فيه مقاومة لشهوات النفس بحرمانها من لذَّة الطعام والشراب، وهم يريدون ذلك الطعام والشراب؛ فتعارض الغرضان، فآثروا ما يحبون على ما يحب الله، وهذا بعينه أعظم الزَّلل عند أهل البصيرة.
بل إن الموالد في كثير من الأحيان تكون ذريعة للفسق لا للشكر.
يقول السيد رشيد رضا في المنار ( 2/74-76 ): « فالموالد أسواق الفسوق فيها خيام للعواهر، وخانات للخمور، ومراقص يجتمع فيها الرجال لمشاهدة الراقصات المتهتكات الكاسيات العاريات، ومواضع أخرى لضروب من الفحش في القول والفعل، يقصد بها إضحاك الناس ».
أفلا يكفي الأمةَ ما كفى نبيَّها ويسعها ما وسعه ؟ وهل يقدر عاقل أن يقول: لا.
إذن لِمَ الافتيات على الشارع، والتقدم بالزيادة عليه، والله – سبحانه وتعالى – يقول: { وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } ( الحشر: 7 )، ويقول – تعالى -: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ( الحجرات: 1 ) .
الشبهة الثانية: الاستدلال بما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: « خرجت مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصل الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نِعْمَ البدعة هذه ! والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون.
يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله »[4] .
فيستدل المخالف بقول عمر – رضي الله عنه -: « نِعْمَ البدعة هذه » على ما يستحدثه المبتدعة.
وللإجابة عن هذه الشبهة نقول: إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال هذه الكلمة حين جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، وصلاة التراويح وفعلُها جماعةً ليس بدعة في الشريعة؛ بل هو سنة بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفعله لها في الجماعة، فقد صلاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثاً.
فعن أبي ذرٍّ – رضي الله عنه – قال: « صمنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رمضان، فلم يقم بنا حتى بقي سبعٌ من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، فقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله ! لو نفَّلتنا بقية ليلتنا هذه، قال: « إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة »، ثم لم يصلِّ بنا ولم يقم، حتى بقي ثلاث من الشهر، فقام بنا في الثالثة، وجمع أهله ونساءه، حتى تخوَّفنا أن يفوتنا الفلاح، قلت: وما الفلاح ؟ قال: السحور »[5] .
وبهذا الحديث احتجَّ أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد.
وفي قوله هذا ترغيب لقيام رمضان خلف الإمام، وذلك أَوْكد من أن يكون سنة مطلقة، وكان الناس يصلونها جماعاتٍ في المسجد على عهده – صلى الله عليه وسلم – وهو يُقِرُّهم، وإقراره سنة منه – صلى الله عليه وسلم -.
وفي قوله في رواية البخاري آنفاً: « ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط » ما يدل على أن من الصحابة – رضي الله عنهم – من كانوا يصلون التراويح جماعة في عهد عمر – رضي الله عنه – قبل أن يجمعهم كلهم على إمام واحد.
إذا عُلم ما تقدَّم؛ فمفهوم البدعة الشرعية لا ينطبق على فعل عمر – رضي الله عنه – وإنما أراد – رضي الله عنه – بقوله المذكور البدعة اللغوية، فالبدعة في الشرع لا تُستخدم إلا في موضع الذم بخلاف اللغة؛ فإن كل ما أُحدِث على غير مثال سابق بدعة؛ سواء أكان محموداً أم مذموماً.
وعلى هذا حمل العلماء قول عمر رضي الله عنه؛ فقد قال الإمام ابن كثير – رحمه الله – عند تفسير الآية ( 17 ) من سورة البقرة ما نصه: ( والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية؛ كقوله – صلى الله عليه وسلم -: « فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة »، وتارة تكون بدعة لغوية؛ كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عن جَمْعِه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: « نعْمَتِ البدعةُ هذه ! » ).
وقال ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: ( فإذا كان نص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد دلَّ على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته، أو دلَّ عليه مطلقاً ولم يُعمَل به إلا بعد موته؛ ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فإذا عُمل ذلك العمل بعد موته؛ صحَّ أن يسمَّى بدعة في اللغة؛ لأنه عَمَلٌ مبتدأ، كما أن الدين نفسه الذي جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – يسمَّى بدعة ويسمَّى محدثاً في اللغة، كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – المهاجرين إلى الحبشة: « إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدين محدَث لا يُعرَف ».
ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة، وإن سُمِّي بدعة في اللغة، فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة، وقد عُلِم أن قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: « كل بدعة ضلالة » لم يُرِد به كل عملٍ مبتدأ، فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عملٌ مبتدأ، وإنما أراد: ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو – صلى الله عليه وسلم -.
وإذا كان كذلك فالصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يصلون قيام رمضان على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – جماعةً وفرادى، وقد قال لهم في الليلة الثالثة أو الرابعة لما اجتمعوا: « إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن تفرض عليكم، فصلّوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة »[6]، فعلَّل – صلى الله عليه وسلم – عدم الخروج بخشية الافتراض، فعُلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم.
فلما كان في عهد عمر – رضي الله عنه – جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد، فصارت هذه الهيئة – وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج – عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمِّي بدعة؛ لأنه في اللغة يسمَّى بذلك، ولم يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح، لولا خوفُ الافتراضِ، وخوفُ الافتراض قد زال بموته – صلى الله عليه وسلم – فانتفى المعارض [7] ) ا. هـ.
الشبهة الثالثة: ومن الشُّبَه التي استند إليها القائلون بالاحتفال بالمولد النبوي قولهم: إن التذكير بالمولد مطلوب بأمر القرآن، قال – تعالى -: { وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ } ( إبراهيم: 5 ) .
الجواب عن هذه الشبهة: إن الاستدلال بهذه الآية على مشروعية الاحتفال بالمولد من قبيل حمل كلام الله – تعالى – على ما لم يحمله عليه السلف الصالح، والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به، وهذا أمرٌ لا يليق؛ فإن كبار المفسِّرين قد فسَّرُوا هذه الآية الكريمة، ولم يكن في تفسيرهم أن المقصود بالتذكير بأيام الله في هذه الآية الاحتفال بمولد النبي أو الولي، وإنما المقصود بالتذكير بأيام الله: الوعظ بنِعَمه ونِقَمه؛ فعن أُبَيِّ بن كعب – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: « إنه بينما موسى – عليه السلام – في قومه يذكِّرهم بأيام الله، وأيام الله نعماؤه وبلاؤه، إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً خيراً وأعلم مني »، قال: « فأوحى الله إليه: إني أعلم بالخير منه أو عند من هو…. » الحديث[8] .
قال القرطبي في تفسيره: ( قوله – تعالى -: { وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ } أي: قل لهم قولاً يتذكرون به أيام الله تعالى.
قال ابن عباس و مجاهد و قتادة: بنِعَم الله عليهم، وقاله أُبَيُّ بن كعب ورواه مرفوعاً، أي: بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النِّعَم، وقد تُسمَّى النِّعَم الأيام، ومنه: قول عمرو بن كلثوم:وأيام لنا غر طوال …………………
وعن ابن عباس أيضاً ومقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة، يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي: بوقائعها.
قال ابن زيد: يعني: الأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية، وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال: بلاؤه.
وقال الطبري: وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم، أي: بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة، وقد كانوا عبيداً مستذَلين، واكتفى بذكر الأيام عنه؛ لأنها كانت معلومة عندهم ) ا. هـ [9] .
الشبهة الرابعة: قولهم: الترك لا يقتضي التحريم.
وينسبون مثل هذا الكلام إلى الأصوليين، بل يبالغ بعضهم ويغلو عندما يزعم أنه إجماع.
ويُقال في ردِّ هذه الشبهة: نعم ! الأصوليون لم يجعلوا الترك من أنواع التحريم؛ فالتحريم يكون بالنص ونحوه مما يدل على التحريم، لكن هنا فرق لا بد من التنبُّه له هو سبب هذا الإشكال: كلام الأصوليين إنما هو في العادات لا في العبادات..
فالأصل في العادات الإباحة، والترك في باب العادات لا يدل على التحريم؛ فمثلاً: النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يأكل الضبَّ؛ فهل هذا يدل على تحريمه ؟ الجواب: لا؛ لأن الترك لا يدل على التحريم، هذا في باب العادات، وهكذا فالأصل في كل شيء من المنافع الدنيوية الإباحة، إلا إذا ورد ما يمنع، وهذا من التوسيع والرحمة.
وأما العبادات فالأصل فيها التحريم إلا إذا ورد الإذن، وعلى ذلك فما تركه الشارع فهو محرم؛ إذ لو كان مشروعاً لفعل، فالترك دل على عدم المشروعية، فكل ما نوقعه من عبادات: من صلاة وصيام وحج وزكاة كلها لم يكن لنا القيام بها لولا إذن الشارع، وهذا هو مقتضى التسليم وعدم التقدُّم بين يدي الله ورسوله.
ولو كان لكل إنسان الحق أن يخترع عبادة كيفما شاء لم يكن من داعٍ لإرسال الرسول لتبليغ رسالة الرب إلى الخلق، بل يُترَك لكل قوم وكل إنسان أن يخترع ما شاء من العبادات، وهذا باطل.
والدليل على أن الأصل في العبادات المنع قوله – صلى الله عليه وسلم -: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة»، وعلى ذلك يَرِدُ السؤال: هل المولد من باب العبادات أو من باب العادات؟ لننظر فيما يكون في الاحتفال بمولد النبي – صلى الله عليه وسلم – كما يراه صالحوهم، إنه اجتماع لتلاوة سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – مع إنشاد المدائح النبوية بأصوات ملحنة، ثم تقام الولائم لأجل ذلك، وهم يفعلون ذلك في كل عام مرة على الأقل في تاريخ محدد، وهذا بلا ريب عبادة محضة، والأدلة على ذلك:
أولاً: من حيث إنهم يتخذون ذلك اليوم عيداً، والعيد هو ما يُعتاد مجيئه في كل زمن؛ فالجمعة عيد؛ لأنه كل أسبوع، والفطر والأضحى عيدان؛ لأنهما يعودان كل عام، وعلى ذلك قِسِ المولد، فهو يُحتفَل به كل عام، وهذا تشريع واتخاذٌ ليومٍ لم يأذن به الشارع أن يكون عيداً، ونحن نعلم أن المسلمين ليس لهم إلا عيدان يحتفلون بهما: الفطر والأضحى، ولا يجوز لهم أن يتخذوا عيداً ثالثاً.
والحاصل في المولد أنه صار – بتكراره السنوي – عيداً يُحتفل به، أي: صار عيداً ثالثاً في الإسلام، وهذه هي الضلالة.
ثانياً: أن المولد ذِكْر، والذِّكْر عبادة.
ثالثاً: أن أهل الموالد يقصدون التقرُّب إلى الله – تعالى – بما يفعلون، والتقرُّب عبادة.
إذاً؛ الموالد عبادة وليست عادة، فتدخل في باب: ( الأصل في العبادات المنع إلا بنصٍّ )، ولا تدخل في باب: ( الأصل في العادات الإباحة إلا بنصٍّ ).
ومن ثَمَّ لا يجوز الاحتجاج بقاعدة: ( الترك لا يقتضي التحريم )؛ إذ إن هذه القاعدة يُعمَل بها في العادات لا في العبادات.
إن دعوى أن ( الترك لا يقتضي التحريم ) هكذا بإطلاق تصادِم النصَّ النبويَّ: « إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة »؛ فيصبح هذا النص لا معنى له إذا عُمِل بتلك الدعوى على إطلاقها دون التفصيل المذكور.
ودائماً ما يخلط دُعاة الاحتفال بالمولد بين البدعة والمصلحة المرسلة.
والضابط الذي تتميَّز به المصلحة المرسلة من البدع المحدثة هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في « اقتضاء الصراط المستقيم » ( 2/594 ): ( والضابط في هذا – والله أعلم – أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحةً؛ إذ لو اعتقدوه مفسدةً لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين.
فما رآه الناس مصلحةً؛ نُظِرَ في السبب المُحْوِج إليه: فإن كان السبب المُحْوِج إليه أمراً حدث بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – لكن من غير تفريط منه؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، لكن تركه النبي – صلى الله عليه وسلم – لمعارضٍ زال بموته.
وأما ما لم يحدث سبب مُحْوِج إليه، أو كان السبب المُحْوِج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث؛ فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موجوداً، لو كان مصلحة ولم يُفْعَل؛ يُعْلم أنه ليس بمصلحةٍ. وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق؛ فقد يكون مصلحةً… ) ا. هـ.
وخلاصةُ القول: إن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمرٍ ضروري أو رفع حرجٍ لازم في الدين، وليست البدع عند من يدَّعيها هكذا بيقين؛ لأن المبتدع إنما يفعل البدع بقصد زيادة التقرُّب إلى الله، وإن لم يكن هناك حاجة إلى إحداث ذلك الفعل.
إن دعاة الاحتفال بالمولد يعرضون هذه القضية على أنها خصومة مع نبي الله وأولياء الله، ولا شك أن عرض القضية على هذا النحو هو من أعظم التلبيس وأكبر الغش لجمهور الناس وعامة المسلمين، فالقضية ليست على هذا النحو بتاتاً؛ فالذين لا يرون جواز الاحتفال بالمولد خوفاً من الابتداع في الدين هم أسعد الناس حظاً بمحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – وطاعته ومحبة أولياء الله الذين ما نالوا تلك الولاية إلا بمحبتهم واتِّباعهم له – صلى الله عليه وسلم -، وهم أكثر الناس تمسُّكاً بسُنَّته، واقتفاءً لآثاره، وتتبُّعاً لحركاته وسكناته، واقتداء به في كل أعماله – صلى الله عليه وسلم -، وهم كذلك أعلم الناس بسنته وهديه ودينه الذي أُرسل به، وأحفظ الناس لحديثه، وأعرف الناس بما صحَّ عنه وما افتراه الكذابون عليه، ومن أجل ذلك هم الذابُّون عن سنته، والمدافعون في كل عصر عن دينه وملَّته وشريعته.
بل إن رفضهم للاحتفال بالمولد وجعله عيداً إنما ينبع من محبتهم وطاعتهم للنبي – صلى الله عليه وسلم -، فهم لا يريدون مخالفة أمره، ولا الافتئات عليه، ولا الاستدراك على شريعته؛ لأنهم يعلمون جازمين أن إضافة أي شيء إلى الدين إنما هو استدراك على الرسول – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن معنى ذلك: أنه لم يكمل الدين، ولم يُبَلِّغ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – كل ما أنزل الله إليه، أو أنه استحيا أن يُبْلِغ الناس بمكانته ومنزلته وما ينبغي له، وهذا أيضاً نقص فيه، حاشاه – صلى الله عليه وسلم – ذلك.
(1) أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله – تعالى -: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } (طه: 9)، { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (النساء: 164)، رقم (3397) من المطبوع مع شرحه فتح الباري.
(2) أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجه، وصححه الألباني.
(3) يراجع: الموافقات (3/41-44)، والمسألة الثانية عشرة من كتاب « الأدلة الشرعية ».
(4) أخرجه البخاري في كتاب: التراويح، باب: فضل من قام رمضان، رقم (2010) من المطبوع مع شرحه فتح الباري.
(5) أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وصححه الألباني.
(6) يقصد ما أخرجه البخاري، في باب: ما يكره من كثرة السؤال، عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – « أن النبي – صلى الله عليه وسلم – اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيها ليالي، حتى اجتمع إليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: « ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم، حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس ! في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ».
(7) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/592-593).
(8) أخرجه مسلم في صحيحه، باب: من فضائل الخضر عليه السلام.
(9) تفسير القرطبي (9/342).
(( مجلة البيان ـ العدد [257] صــ 38 المحرم 1430 – يناير 2009 ))
Source link