منذ حوالي ساعة
كيف سبق أبو بكر الصديق إلى درجة الصديقين، وماذا نفعل لنكون من الصديقين؟
كيف سبق أبو بكر الصديق إلى درجة الصديقين، وماذا نفعل لنكون من الصديقين؟
لُقِّب أبو بكر رضي الله عنه بالصِّدِّيق، حتى أصبح علمًا على هذا اللقب، وصرنا لا نقولُ: (قال الصِّدِّيق) إلا ويتبادر إلى الأذهان أبو بكر رضي الله عنه، لقبٌ عظيمٌ لم يأتِ عبثًا، بل هو نِتاجُ حياةٍ حافلةٍ بالمواقفِ العظيمة التي تؤكِّدُ على صدقِ هذا الإمامِ العظيم والسيد الجليل رضي الله عنه.
أبو بكر الصديق، هذا لقَّبه ربُّه عزَّ وجلَّ والنبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم، {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، قال بعض أهل التفسير: {{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}} هو النبي صلى الله عليه وسلم، {{وَصَدَّقَ بِهِ}} هو أبو بكر رضي الله عنه.
وعنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: صعِدَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحدٍ ومعه أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، فرَجَفَ بهم، فضربَه برجلِه، قال: (( «اثبُتْ أُحُدُ، فما عليك إلا نبيٌّ، أو صِدِّيقٌ، أو شهيدانِ» )) [أخرجه البخاريُّ (3686)]وعنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان على حِراءَ هو وأبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وطلحةُ، والزبيرُ، فتحرَّكتِ الصخرةُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( «اهدَأْ، فما عليك إلا نبيٌّ، أو صِدِّيقٌ، أو شهيدٌ» )) [أخرجه مسلمٌ (2417)].
وفي روايةٍ لمسلمٍ: ((وعليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وطلحةُ، والزبيرُ، وسعدُ بنُ أبي وقاصٍ رضي الله عنهم))، فزاد سعدًا رضي الله عنه.
وعن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَميِّ رحمه الله قال: لما حُصِرَ عثمانُ وأُحِيطَ بدارِه، أشرفَ على الناسِ، فقال: نشَدتُكم باللهِ، هل تعلمون أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حين انتفَضَ بنا حِراءُ قال: (( «اثبُتْ حِراءُ، فما عليكَ إلا نبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شهيدٌ» ))؟ [سندُهُ حسنٌ: أخرجه أحمدُ (2/ 419)].
وعن بُريدَةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ جالسًا على حِراءَ ومعه أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، فتحرَّكَ الجبلُ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( «اثبُتْ حِراءُ؛ فإنه ليس عليك إلا نبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شهيدٌ» )) [سندُهُ صحيحٌ: أخرجه أحمدُ (5/ 331)].
وعن سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه قال: ارتجَّ أُحدٌ وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( «اثبُتْ أُحدٌ، ما عليك إلا نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشهيدانِ» )) [سندُهُ صحيحٌ: أخرجه أحمدُ (5/ 331)].
قلت: اختلفتِ الرواياتُ – كما رأيتَ – فمرَّةً جاءت أنه صلى الله عليه وسلم كان معهم على أُحُدٍ، ومرَّةً أنهم كانوا على حِراءَ، وهذه الرواياتُ صحيحةٌ، فيظْهَرُ أنهما واقعتَانِ مختلفتانِ، والله أعلم.
وعن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: «كنتُ جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذْ أقبلَ أبو بكرٍ آخذًا بطَرَفِ ثوبِه حتى أبدَى عن ركبتِهِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمَّا صاحبُكُم فقد غامرَ))، فسلَّم، وقال: إني كان بينِي وبين ابنِ الخطَّابِ شيءٌ، فأسرعْتُ إليه ثم ندِمْتُ، فسألتُه أن يغفِرَ لي فأبى عليَّ، فأقبلْتُ إليك، فقال: ((يغفِرُ اللهُ لك يا أبا بكرٍ))، ثلاثًا. ثمَّ إنَّ عمرَ ندِمَ، فأتى منزلَ أبي بكرٍ، فسألَ: أثَمَّ أبو بكرٍ؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلَ وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّرُ، حتى أشفقَ أبو بكرٍ، فجثَا على رُكبتَيْه، فقال: يا رسولَ اللهِ! واللهِ أنا كنتُ أظلَمَ، مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ بعثَني إليكم فقلتُم: كذبْتَ، وقال أبو بكر: صدَقَ، وواسَاني بنفسِه ومالِه، فهل أنتم تاركُو لي صاحبِي؟)) مرتين، فما أوذِيَ بعدها» . [أخرجه البخاري (3661).
أَبْدَى: أظهرَ. صاحبُكُم: يعني أبا بكر رضي الله عنه. غامَرَ: خاصمَ، والمعنى: دخلَ في غمْرةِ الخصومةِ، والغامرُ: الذي يرمِي بنفسِه في الأمرِ العظيمِ؛ كالحربِ وغيرِه. وقال بعضُ أهلِ العلمِ: معناه: سبقَ بالخيرِ وزاحمَ فيه. والأول أشبه. فأسرعْتُ إليه: بالكلامِ الغليظِ. يتمعَّرُ: يتغيَّرُ لونُه ويحمرُّ مِنَ الغضبِ].
قلت: وهكذا كان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم يصيبون ويُخطِئُون، لكنَّهم كانوا أوَّابين مُنيبين، يُسرِعون بالرجوعَ إلى الحقِّ، والاعتذارَ عمَّا يكون منهم مِنْ زلَلٍ وخطأٍ. فلم يأنَفْ أبو بكرٍ رضي الله عنه مِنْ طلبِ العفوِ والغفرانِ مِنْ عمرَ رضي الله عنه، ولم يستكبِرْ عمرُ رضي الله عنه مِنَ الخضوعِ إلى الحقِّ، فذهب يبحَثُ عن أبي بكرٍ رضي الله عنه. لقد تصافَت قلوبُهم، ونُزِع منها كلُّ ضغينةٍ وحقدٍ، وحَقَّ فيهم قولُ ربِّنَا الجليلِ: {{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا}} [الحجر: 47]، فتشبَّه بهم يرحمْكَ اللهُ.
ولمَّا أُسرِي بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجدِ الأقصى كان أبو بكرٍ رضي الله عنه مِمَّنْ صدَّقَه، قال أبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ رحمه الله: فتجهَّزَ ناسٌ مِنْ قريشٍ إلى أبي بكرٍ، فقالوا له: هل لك في صاحبِكَ يزعُمُ أنه قد جاءَ بيتَ المقدسِ، ثم رجعَ إلى مكةَ في ليلةٍ واحدةٍ؟
فقال أبو بكرٍ: أوَقالَ ذلك؟
قالوا: نعم.
قال: فأشهَدُ، لَئِنْ كانَ قال ذلك لقد صدقَ.
قالوا: فتُصدِّقُه بأنْ يأتِيَ الشَّامَ في ليلةٍ واحدةٍ، ثم يرجِعَ إلى مكةَ قبل أن يُصبِحَ؟
قال: نعم، إني أُصدِّقُه بأبعَدَ مِنْ ذلك، أُصدِّقُه بخبرِ السَّماءِ.
قال أبو سلمةَ: فبها سُمِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ [مرسلٌ، حسنٌ بشواهدِهِ: أخرجه البيهقيُّ في دلائل النبوة (2/ 360)، بإسنادٍ صحيحٍ. وله شاهدٌ أخرجه الحاكمُ (3/ 62)، عن عائشةَ بسندٍ فيه محمَّدُ بنُ كثيرٍ الصَّنعَانيُّ صدوقٌ كثيرُ الغلطِ، وفي بعضِ متنِهِ نكارةٌ، وله شاهدٌ ثانٍ عن شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ، أخرجه البيهقيُّ (2/ 355)، وفيه عمرُو بنُ الحارثِ الحِمصيُّ مقبولٌ].
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: صلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلاةَ الصُّبحِ، ثم أقبلَ على الناسِ، فقال: ((بينا رجلٌ يسوقُ بقرةً إذْ رَكِبَها فضربَها، فقالت: إنَّا لم نُخلَقْ لهذا، إنما خُلِقْنَا للحرثِ. فقال الناسُ: سبحانَ اللهِ! بقرةٌ تكلَّمُ!
فقال: فإنِّي أومِنُ بهذا، أنا وأبو بكرٍ، وعمرُ، – وما هُمَا.
وبينمَا رجلٌ في غنَمِه إذْ عدَا الذئبُ، فذهبَ منها بشاةٍ، فطلَبَ حتى كأنَّه استنقَذَها منه، فقال له الذئبُ هذا: استنقذْتَها مِنِّي، فمَن لها يومَ السَّبُعِ، يومَ لا راعِيَ لها غيرِي. فقال الناسُ: سبحان الله!! ذئبٌ يتكلَّمُ.
قال: فإنِّي أومِنُ بهذا أنا وأبو بكرٍ وعمرُ))، وما هما ثَمَّ. [أخرجه البخاريُّ في مواضعَ؛ منها: (2324)، ومسلم (2388)].
قال العلماءُ: إنَّما قالَ ذلك ثقةً بهما؛ لعلمِه بصدقِ إيمانِهما، وقوَّةِ يقينِهِمَا، وكمالِ معرفتِهما لعظيمِ سلطانِ اللهِ، وكمالِ قدرتِه؛ أنهما يُصدِّقانِ بذلك إذا سمعَاهُ ولا يتردَّدان فيه.
وفيه: فضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما.
وقال بعضُ العلماءِ: بل يُحمَلُ على أنَّه كان أخبرَهما بذلك فصدَّقاه، والأولُ أظهرُ، واللهُ أعلمُ.
وعن حكيمِ بنِ سعدٍ رحمه الله، أنه سمِع علِيًّا يحلِفُ: أَنْزَلَ اللَّهُ اسمَ أبي بكرٍ مِنَ السماءِ الصِّدِّيقَ.
وعن عُقبةَ بنِ أوْسٍ رحمه الله، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما قال: أبو بكرٍ سمَّيتُموه الصِّديقَ، وأصبتُم اسمَه.
وفي روايةٍ عن عقبةَ بنِ أوسٍ رحمه الله قال: كنَّا جلوسًا إلى عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ في بيتِ المَقدسِ، فقال: أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ أصبْتُ اسمَه، عمرُ الفاروقُ فَرْقٌ من حديدٍ أصبْتَ اسمَه، عثمانُ ذو النُّورَينِ أوتِيَ كِفلَينِ مِنَ الرحمةِ، قُتِلَ مظلومًا.
قَال أبو مِحجَنٍ الثَّقفيُّ رحمه الله:
وسُمِّيتَ صديقًا وكلُّ مهاجرٍ سواكَ يُسَمَّى باسمِه غير منكِرِ
سبقتَ إلى الإِسلامِ واللهُ شاهِدٌ وكنتَ جليسًا فِي العرِيشِ المُشهِرِ
وعن إسحاقَ بنِ سُويدٍ رحمه الله قال:
ولكِنِّي أُحِبُّ بكُلِّ قلبِي وأعْلمُ أنَّ ذاكَ مِنَ الصَّوَابِ
رسُولَ اللَّهِ والصِّدِّيقَ حَقًّا بما أَرْجُو به حسْنَ الثَّوَابِ
قلت: لقد سلَّم أبو بكرٍ رضي الله عنه قلبَه لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فصدَّقَه في كلِّ ما أخبرَ به دون ترددٍ أو تلعثُمٍ، ما دخلَ الرَّيْبُ قلبَه أبدًا، ولا خامرَه الشكُّ أبدًا، بل امتلأَ قلبُه خُضعانًا وتصديقًا لكلامِ اللهِ تعالى وكلامِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وهذا لعمرُ اللهِ هي شيما أهلِ الفلاحِ والسعادةِ، {{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}} [الزمر: 33].
فصَدِّقْ كلامَ اللهِ ربِّك وكلامَ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وأذْعِنْ للحقِّ الذي بلغَك، ولا تُكابِر ولا تُجادِلْ بالباطلِ، وامتثِلِ الأمرَ دون تردُّدٍ، وقلْ: {{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}} [البقرة: 285].
Source link