الواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به، وأن يقتصر على ما حد له الله تعالى ورسوله ﷺ، في هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، فلا يزيد فيه ولا ينقص منه.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 116، 117].
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم محذرًا عن طاعة أكثر الناس: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم وعلومهم، فأديانهم فاسدة، وأعمالهم تبع لأهوائهم، وعلومهم ليس فيها تحقيق ولا إيصال لسواء الطريق، بل إن غايتهم أنهم يتبعون الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا، ويتخرصون في القول على الله بما لا يعلمون.
ومن كان بهذه المثابة، فحري أن يُحذِّر الله منه عباده ويصف لهم أحواله؛ لأن هذا وإن كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمته أسوة له في سائر الأحكام التي ليست من خصائصه، والله تعالى أصدق قيلًا وأصدق حديثًا، {هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ}، وأعلم بمن يهتدي ويهدي، فيجب عليكم أيها المؤمنون أن تتبعوا نصائحه وأوامره ونواهيه؛ لأنه أعلم بمصالحكم وأرحم بكم من أنفسكم.
ودلت هذه الآية على أنه لا يستدل على الحق بكثرة أهله، ولا يدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق، بل الواقع بخلاف ذلك، فإن أهل الحق هم الأقلون عددًا الأعظمون عند الله قدرًا وأجرًا، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل بالطرق الموصلة إليه[1].
وفي الحديث: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا»[2].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به، وأن يقتصر على ما حد له الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، في هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، فلا يزيد فيه ولا ينقص منه، والذي ينبغي للمسلم أيضًا ألا يكون إمعة يتبع كل ناعق، بل ينبغي أن تكون شخصيته بمقتضى شريعة الله تعالى، حتى يكون متبوعًا لا تابعًا، وحتى يكون أسوة لا متأسيًا؛ لأن شريعة الله والحمد لله كاملة من جميع الوجوه؛ كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] [3].
ومما تقدم يتبيَّن أن من الأخطاء المنتشرة عند كثير من الناس تقليد بعضهم بعضًا بدون علم ومعرفة للحق، سواء في أمور الدين أو الدنيا، ولا أقصد التقليد الذي يقصده الفقهاء في معرفة الأحكام، وأن يتبع العامي من يثق بعلمه ودينه، فهذا أمر آخر.
ولذلك ينبغي للإنسان العاقل أن يتثبت في أموره، سواء ما يتعلق بأمور الدنيا والعادات والتقاليد، أو أمور الدين والأحكام الشرعية، وأن يستعمل عقله ولا يكون إمعة يتبع الناس ويقلدهم في كل صغيرة وكبيرة، فإن هذا من الحمق ونقصان العقل.
ومن الأمثلة التي تدل على ذم التقليد والعواقب الوخيمة التي تنتج عن ذلك ما قاله عمرو بن العاص رضي الله عنه – وهو من دهاة العرب المشهورين بالذكاء والعقل السديد – عندما قال له أحدهم: إنك في هذه البلاغة والفصاحة والرأي الفاضل كنت تأتي حجرًا فتعبده.
فقال له: والله لقد كنت أُجالس أقوامًا تزن حلومهم الجبال الرواسي، ولكن ما قولك في عقول كادها خالقها[4]، [5].
مسألتان:
المسألة الأولى: نبتت في هذا العصر نابتة خبيثة ممن يدَّعون الإسلام وهم يسعون إلى هدمه، ويلقون بالشُّبَه على شباب المسلمين ذكورًا وإناثًا، ومن ذلك تردادهم عبارة خبيثة وهي قولهم: لا تسلم عقلك، وهم يريدون بذلك أن يفهم المسلم دينه – سواء في إيمانه بربه، أو عبادته له، أو في المعاملات الجارية بين الناس، وما يحل وما يحرم – وفق هواه وما تشتهيه نفسه، فإذا قال لهم المسكين: إن هذا قول سلف الأمة وعلمائها، قالوا له: لا تسلم عقلك! فيغتر الجاهل وتجتمع عليه فتنة الشبهة وفتنة الشهوة؛ لأنه في الواقع سلم عقله لدعاة الضلال وجنود إبليس، ولو سلمنا جدلًا أن هذا تسليم للعقل، فإن تسليمه لعلماء الأمة وصلحائها هو النجاة والسلامة، أما تسليمها لهؤلاء فهو الهلاك والندامة؛ قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 4، 5].
المسألة الثانية: لم يرد في دين الإسلام أن الله يريد من عباده كلهم أن يكونوا علماء ومفتين في جميع أمور الدين، بل خص الله بذلك طائفة منهم، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وعلى هذا جرى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته والقرون الفاضلة من بعدهم، فقد كان المُفتون والقضاةُ والمتصدرون لتعليم الناس معدودين، وسائر الناس في أعمالهم التي لا بد منها في حياة الناس والتي لو لم يقوموا بها، لفسدت الحياة وهلك العالم، فإذا أشكل عليهم شيء في أمور دينهم ودنياهم، رجعوا إلى أولئك العلماء فسألوهم، وهذا ما أمر الله به عباده، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
وهذه إشارة كافية لمن عقل، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (ص324). [2] سنن الترمذي برقم (2007) وقال الترمذي: هذا حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وضعفه الشيخ الألباني كما في ضعيف الترمذي (ص266) برقم (345)، وصححه ضمن قول ابن مسعود رضي الله عنه. [3] فتاوى الشيخ ابن عثيمين (2 /301-302). [4] أي: أرادها بسوء. [5] غريب الحديث (2 /486)، والنهاية في غريب الأثر (4 /217).
_________________________________________________________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
Source link