منذ حوالي ساعة
في هذه الأيام يعود الحاجُّ إلى مسكنه وموطنه، قافلًا من أداء عبادة عظيمة جليلة، ربما كان من المقبولين؛ فَرَجَعَ من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومنهم من رجع وقد حجَّت دابته، ولم يحُجَّ لله من قلبه شيءٌ أبدًا.
معاشر المؤمنين: في هذه الأيام يعود الحاجُّ إلى مسكنه وموطنه، قافلًا من أداء عبادة عظيمة جليلة، ربما كان من المقبولين؛ فَرَجَعَ من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومنهم من رجع وقد حجَّت دابته، ولم يحُجَّ لله من قلبه شيءٌ أبدًا.
والناس يتباينون بعد الفراغ من أداء العبادة في أحوالهم؛ فمنهم من إذا أدى العبادة وفرَغ منها، أدركه شعور بالخوف، ونابه الوجل، وأصبح يقلِّب كفَّيهِ؛ خوفًا ألا يكون سعيُه قد قُبل؛ فذاك عسى أن يكون من الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 57 – 60].
قال ابن كثير رحمه الله: “أي: خائفون من الله، مع ما أحسنوا وآمنوا وعملوا والصالحات، ووجلون من مكْرِهِ بهم؛ قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحسانًا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءةً وأمنًا”.
أولئكم الذين سألت عنهم عائشة رضي الله عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل، فقال: «لا يا بنة الصديق، ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهم يخافون ألَّا يُتقبَّل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات»؛ (رواه الترمذي وأحمد).
هذا هو دأب الصالحين من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم بإحسان؛ كانوا إذا أدَّوا العبادة، أدركهم الخوف والوَجَلُ، والخشية والإشفاق، هل قُبِلت أم لم تُقبَل؟ وهل رُفِعت أم رُدَّت؟ كانوا يتهمون أنفسهم بالتقصير والتفريط؛ مخافة أن يدركهم هذا، حتى يرِدَ الواحد منهم على ربه آمنًا مطمئنًّا.
قال إبراهيم التيمي: “ما عرضت قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكون مكذِّبًا”، وقال ابن أبي مليكة: “أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل”، ويُذكَر عن الحسن: “ما خافه إلا مؤمنٌ، ولا أمِنَهُ إلا منافق”.
والصحابة الأجلَّاء كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولا يلزم من خوفهم أنهم وقعوا في هذا الشيء بعدُ؛ وإنما ذلك على سبيل عظيم العناية في المحافظة على الأعمال.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسًا في بيته منكِّسًا رأسَه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر؛ كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبِط عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا، وفي رواية: فرجع المرة الآخِرة ببشارة عظيمة، فقال: «اذهب إليه، فقل له: إنك لستَ من أهل النار، ولكن من أهل الجنة»؛ (متفق عليه).
وهذا أبو بكر صِدِّيق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها، ووزيره، وخليفته من بعده على أمته، الذي صدَّق النبي صلى الله عليه وسلم يوم كذَّبه الناس، وآزَرَه يوم خَذَله الناس، يبكي خوفًا وجزعًا، ويقول عند موته: “يا ليتني أقدَمُ على ربي كفافًا لا لي ولا عليَّ”.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه شهيدُ المحراب، الإمام الأوَّاب، الذي وافق حكمه حكمَ الكتاب يسأل حذيفة يتبعه: هل عدَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟
هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة، يخشَون أن تحبَطَ أعمالهم، وألَّا تُقبَل منهم؛ لرسوخ علمهم، وعميق إيمانهم، كانوا جبالًا في العمل، وجبالًا في الخوف والوجل، ولنتأمل حالَ كثيرٍ منا يا عباد الله؛ إذا أدى الواحد منا عبادةً، نظر إلى نفسه نظر الرضا، وقلَّب بصره في عِطْفَيه مُدِلًّا مُعجَبًا كأنما يمُنُّ على ربه بعبادته، ناهيك عن حديثه بما فعل، وعن تصديره مناقبَه، وما أحدث وما حصل.
إن من الأمور الخطيرة التي تُفسد الأعمال أن يُدِلَّ الرجل بعمل، وكأنما على الله شرط أن يقبل كل سعيٍ سعاه ساعٍ، بغض النظر عن إخلاصه أو تحقيقه الموافقةَ للنبي صلى الله عليه وسلم.
والعبد يجتهد في عمل الطاعات، وقد يَزِلُّ زَلَّةً، أو يقع في مَهْواة، أو يتكلم بكلمة من عُجْبٍ أو جرأة على الله تعالى؛ فأحْبَطَتْ عمله، وجعلته هباءً منثورًا، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
إن الشرك بالله تعالى أعظم مُحبِط للأعمال؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وسألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن جُدْعَان، وكان رجلًا مشركًا مات في الجاهلية، يُطْعِم الطعام، وينصر المظلوم، وله من أعمال البِرِّ الكثير؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «ما نفعه ذلك، إنه لم يقل يومًا: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين»؛ (رواه البخاري).
إن مما يخيب سعي العاملين الرياءَ في العمل؛ وهو أن يطلب العبد بعمله ثناء الناس ومدحهم وذكرهم؛ وفي الحديث القدسي: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمِلَ عملًا أشرك فيه معي غيري، تركْتُه وشركَه»؛ (رواه مسلم).
إن في هذا الدين فرصًا عظيمةً، ومواسمَ جليلة، تتضاعف فيها الأعمال، وتتزايد فيها الحسنات، ولكن هناك آفات إذا حلَّ بها العبد، أو وقع فيها، ربما أتت على أول عمله وآخره؛ فالعبد قد يضل سعيه بسبب كلمة قالها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «وإن العبد لَيتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله تعالى، لا يُلقِي لها بالًا يَهْوي بها في جهنم»؛ (رواه البخاري).
ومن مفسدات الأعمال ظلمُ الناس، والاعتداء عليهم قولًا أو فعلًا؛ فحقوق الناس مبنيَّة على العدل والمقاصة بينهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس» ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار»؛ (رواه مسلم).
وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 – 36]؛ قال القرطبي: “يفرُّ لأنه يخاف من أن يَرَوه، فيطالبوه بحقوقهم عليه في الدنيا التي قصَّر فيها”.
فحافظوا – رحمكم الله – على أعمالكم، واحذروا مما يُحْبِط الأعمال، ويأكل الحسنات؛ من الرياء، والغِيبة، والنميمة، والكِبر، والظلم، وأكل الحرام، وتقطيع الأرحام، وحذارِ من الانهماك في مواقع التواصل والمرئيات بما لا يفيد، ويُهلِك القلوب، ويُفسِد العقول، ويُشغِل عن الطاعة، ويُضيِّع المسؤوليات.
فاتقوا الله – عباد الله – حقَّ التقوى، واحذروا الغرورَ والأمانيَّ، ومدَّ الحبال في المعاصي، وإياكم واستصغارَ الذنوب، إياكم ومحقَّراتِ الذنوب؛ فإنهن يَجْتَمِعْنَ على الرجل حتى يُهْلِكْنَهُ، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]؛ يقول أنس رضي الله عنه: ((إنكم تعملون أعمالًا هي في أعينكم أدقُّ من الشعر، كنا نعُدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات))؛ (رواه البخاري).
واحذروا الجرأةَ على المعاصي في الخلوات؛ وكونوا ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ امتثالًا لقول ربكم جل في علاه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
Source link