وفي الحقيقة أن فكرة مسافة الأمان هي تطبيق لمفهوم أعم وأعمق هو الحزم في الرأي، مبدأ ما استصحبه أحد فندم، ولا أهمله أحد فسلمت مقاتله؛ و لذلك حمده كل من جربه.
تطبق فكرة مسافة الأمان في كثير من الأنظمة، فنظام المرور على سبيل المثال يلزم السائق بمسافة أمان بينه وبين السيارة التي أمامه، وأنظمة البلديات تفرض مسافة أمان بين المساكن وأبراج الضغط العالي، وكثير من الدول تلتزم مع جاراتها بابتعاد الجيوش مسافة معينة عن الحدود، ولا تكاد تجد منشأة إلا وقد أخذت بهذه الفكرة أو هذا المبدأ.
وفي الحقيقة أن فكرة مسافة الأمان هي تطبيق لمفهوم أعم وأعمق هو الحزم في الرأي، مبدأ ما استصحبه أحد فندم، ولا أهمله أحد فسلمت مقاتله؛ و لذلك حمده كل من جربه.
رأيت احتساب الأمر قبل وقوعه ** حمى مُقلتيَّ أن يطول بكاهما
هذا المبدأ جاءت الإشارة إليه في كثير من الأحاديث:
“من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه”.
“دع ما يريبك إلى مالا يريبك”.
“أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما…”
وقاعدة “سد الذرائع” تنسجم بشكل كامل معه، وقد طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم فعلياً في كثير من الأمور، منها وضعه للرماة على الجبل في معركة أحد تحسباً لما قد يقوم به خيالة قريش من التفاف على الجيش.
تجده حاضراً في كلام كثير من الحكماء: “الحزم سوء الظن”، “أحكم ما تخشاه و الأمر ممكن”، “الحزم في الأمور أولى من الغرور”.
لكننا مع كل ذلك نرى الكثيرين لا يعيرونه ما يستحق!
مجال تطبيق فكرة مسافة الأمان واسع جداً في حياتنا، فعلى سبيل المثال: بدلاً من أن تضبط المنبه على الوقت لإيقاظك لصلاة الفجر، اجعل هناك فترة أمان سابقة بخمس دقائق.
بدلا من أن تكون قرب عملك عند السابعة كن قبلها بعشر دقائق.
بدلا من أن يبدأ الطالب مراجعة دروسه قبل الاختبار بأسبوعين ليضع فترة أمان أسبوعا ثالثاً، وبذلك يضمن لو حدث طارئ أن يتم معالجته في فترة الأمان.
بدلاً من أن تورط نفسك في زحام مجنون لشراء حاجيات رمضان يوم 29 شعبان، وفرها قبل ذلك بأسبوع.
وإذا تجاوزنا فكرة مسافة الأمان إلى المبدأ الذي نبعت منه، وهو الحزم فإن تطبيقاته تكاد تتصل بكل نواحي حياتنا، فمن الحزم مثلا أن تجعل بينك و بين مواضع الشُبه و سوء الظن مسافة أمان، و”من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن إلا نفسه”.
ومن الحزم أن لا تعد أحداً بشيء قد لا يناسبك الوفاء به، بل تجعل الأمر مفتوحاً ليكون الخيار لك.
عندما تتكلم في أي موضوع، هناك من ينظر في كلامك و يقيِّمه، وربما يبحث عن عيب فيه، فمن الحزم أن تزن كلامك قبل أن يزنه غيرك، فشتان بين الحالين.
إذا قُلت قَدِّر أن قولك عُرضَـةً ** لِبادِرَةٍ أو حُجَّةٍ لمخاصِـــــــــــمِ
وإنَّ امرأً لم يَخْشَ قبل كلامه ** الجوابَ فَيَنْهى نفسَهُ غيرَ حازِمِ
في نقد الآخرين أو عتابهم، لا تعجل على أحد بلوم حتى تتأكد أنه لا عذر له، لأنك إن فعلت دون تثبت انقلب لومك لوماً عليك.
تأن و لا تعجل بلومكَ صاحباً ** لعلَّ له عذراً و أنتَ تلومُ.
استعن بالكتمان في جميع شؤون حياتك؛ فلو لم يعلم الناس أن في المحار لؤلؤاً ما كُسر، و على سبيل المثال ينبغي للمرء أن يعتني بمظهره و ما يمكن أن يدل عليه؛ فحمله حقيبة من تلك التي توضع فيها النقود أثناء سفره قد يعرضه للاعتداء أو السرقة، و خروجه من مصرف و هو يحمل ظرفاً منتفخاً يعني أنه يدعو اللصوص لسرقته!
فليتعلم شيئاً من فنون التمويه، فدرهم وقاية خير من قنطار علاج.
عندما تعلق آمالاً عريضة على أمر ما، الحصول على وظيفة جديدة، ترقية، أو أي أمر آخر، ضع مسافة أمان نفسية تخفف من تلك الآمال وتفترض عدم حصولها؛ حتى لا تصاب بالإحباط عندما لا يتحقق الأمل.
بعض الناس إذا أُعجب باتجاه ما، اندفع فيه بقوة، فيحد ذلك من قدرته على التراجع أو التصحيح فيما بعد.
والحزم يقضي بأن يأخذ الأمر على خطوات؛ ليستفيد في كل خطوة من تجربته في التي قبلها، وليكون الباب أمامه مفتوحاً لتدارك الموقف لو جد جديد، أو اكتشف أنه على خطأ.
في الحوارات المختلفة تجد المحاور المتمرس يتجنب الألفاظ القطعية و يستخدم كلمات من قبيل “بعض، أعتقد، من أفضل.. ” الخ، بينما تجد الغر يتورط في الجزم بما يصعب إثباته فيسهل على الآخرين اصطياده.
ومن ذلك ما فعله كاتبٌ مشهور حين أنكر بإطلاق أن يكون هناك سعودي يصف نفسه بالعلمانية!
فلم يتكلف محاوره لإسقاط دعواه أكثر من ذكر مثالٍ واحد لسعودي يصف نفسه بأنه علماني، ثم أهداه نصيحة بأن يترك الباب موارباً في المرات القادمة حتى يستطيع الهرب.
عليك بأوساط الأمور فإنها ** نجاةٌ و لا تركب ذلولاً ولا صعباً
عندما تهم بأمر ما، قم بجمع المعلومات ودراسة كل شيء له علاقة به قبل أن تضعه موضع التنفيذ، وتذكر أن النجار الجيد يقيس مرتين ويقطع مرة واحدة.
وفي الجملة ومن واقع تجارب:
لا تتوقف عند آخر حد من الصواب وأول حد من الخطأ.. تكون بذلك كمن ينام على حافة هاوية، أي حركة غير محسوبة تجعله يسقط.
يجب أن تضع مسافة أمان بين الصواب الذي مازلت فيه وبين أول حدود الخطأ، بذلك تحمي نفسك من الوقوع في الخطأ عندما تخفق في تقدير خطوة ما، أو تحديد اتجاه ما، لأن أي خطوة مفاجئة في الاتجاه غير الصحيح يمكن تداركها كونها وقعت في مسافة الأمان، بينما لو كنت على الحد المباشر للخطأ فإن خطوة غير محسوبة ستوقعك فيه حتماً.
أخيراً:
تذكر أن الحزم في الرأي هو طوق نجاة في بحر الحياة المتلاطم، وليس عاقلا من يركب البحر دون طوق نجاة.
____________________________________________________
الكاتب: عبداللطيف الثبيتي
Source link