منذ حوالي ساعة
الصدق خُلُقٌ نبيل، سار عليه النُّبلاء، وحرص عليه الشرفاء، اتصف به سائر الرسل والأنبياء، وتبِعهم عليه الصالحون الأولياء، وذِكْرُ أخبارهم مُعِين على التخلُّق بأخلاقهم، وتربية النشء على ما تربَّى عليه أسلافهم.
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
خُلُقٌ عظيم القَدْرِ، احتفى به وبأهله الرحيم البَرُّ، وصار صفةً ملازمةً لأهل البِرِّ، كيف لا وهو خلق يهدي إلى البر؟ والبر في الجنة استقرَّ، من اتصف به ارتاحت نفسه واطمأنت، ورغد عيشها واستقرت، اتصف بأعلى منازله أهلُالرسالات، وسار على نهجهم الأولياءُ أهل الكرامات والْمَكْرُمات، وهو الخُلُقُ النافع يوم الأهوال ويوم العَرَصات؛ ألم يقُلْ ربنا العظيم رب البريات: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].
إنه الصدق الذي صاحبُهُ من الذين أنعم الله عليهم مع أولي الطاعات والقربات؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
عباد الله:
الصدق صفة القرآن، ومن صدَّق به من الصالحين والصالحات؛ قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33].
وصف الله جملةً من رُسُلِهِ بالصِّدِّيقيَّة؛ كإبراهيم عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]، وإدريس عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 56].
ووصف يوسفَ أهلُ زمانه بالصِّدِّيق؛ قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} [يوسف: 46]، هو صفة الصِّدِّيق أبي بكر، صاحب السبق من الأصحاب، فكم من خبرٍ صدَّقه وآمن به! فسبحان من وهب الهدايةَ أولي الألباب!
هو دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام شيخ الأنبياء؛ قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]، ودعاء محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاتمِ الرسل والأنبياء؛ قال تعالى: ﴿ {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، يا ألله، دعاء عظيم! قَدَمُ الصدق ومَقْعَدُ الصدق بشارة الله لأوليائه الصالحين؛ قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]، ومن عظيم أمر الصدق أنَّ الله وصَفَ نفسه به؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122].
عباد الله:
الصدقُ مطابقةُ القول للواقع، وقيل: الوفاء لله بالعمل، ومن أعلى مراتبِ الصدقِ: أن تصدُقَ في موضع لا ينجيك منه إلا الكذب.
وتظهر أهميةُ الصدق للمسلم في دخوله في كل أمرٍ من الأمور؛ فالعبادة لا تصحُّ إلا بالصدق، وكذا المعاملة والخُلُق والأدب، وغير ذلك، فالصدق في الإخلاص هو الركن الأعظم الذي لا تصح العبادة إلا به؛ ولذا جاء الأمر به في القرآن؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “الإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر”.
وللصدق فوائدُ عظيمة؛ منها:
1- الصدق دليل الإيمان والتقوى، فبعد أن أخْبَرَ الله عن أهل البر، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام؛ قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، والصدق دليل البراءة من النفاق وأهله؛ لأن الكذب من آية المنافق.
2- الصدق يؤدي إلى الخير وحسن العاقبة؛ قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21]، فهو طريق الجنة؛ قال عليه الصلاة والسلام: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البر يهدي إلى الجنة»؛ (متفق عليه).
3- الصدق يُورِث الطمأنينة، والثقة بنفسك وبمن تجالسه، فمجتمع ينتشر الصدق في جلسائه، فالثقة في أقوالهم وأفعالهم، ووعودهم وعقودهم كبيرة، ويبعد كل البعد أن تجد صادقًا وهو في الوقت نفسه غادر غاشٌّ ومخادع؛ فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفِظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، والكذب رِيبةٌ»؛ (رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح)؛ قال أهل الطب: الذي يكذب يواجه باستمرار حالات من القلق والاكتئاب، وغيرها من الأمراض النفسية والجسدية.
4- الصدق يُورِثُ حُسْنَ التصور للوقائع والأحداث، بخلاف الكذب؛ قال ابن القيم رحمه الله: إياك والكذبَ؛ فإنه يُفسِد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس.
وبيان ذلك: أن الحدث الواحد في ذهن الصادق واحد، فلا تختلط عليه الأمور، بينما الحدث الواحد في ذهن الكذَّاب أحداث متعددة، ومع كثرة الأحداث في الحياة يختلط بعضها ببعض، ولا تَسَلْ بعد ذلك عن حَيرة المتحدث الكذَّاب عند حديثه، وعند من يستمع إليه.
5- الصدق سببٌ لحفظ العقل من الهَرَمِ والخَرَفِ؛ قال مالك بن أنس: “قلَّما كان الرجل صادقًا لا يكذب، إلا مُتِّع بعقله، ولم يُصِبْهُ ما يصيب غيره من الهرم والخرف”، ويؤيِّد هذا حديثُ رسولِ الله: «تعرَّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة»، وهذا أبو الطيب الطبري أحد علماء أهل الإسلام، متعه الله بصحته وعافيته، فاستغرب الشباب ذلك؛ فقال لهم: “هذه جوارحُ حفِظناها وقت الصغر، فحفِظها الله لنا وقت الكِبَرِ”.
6- الصدق يُورِث محبة الله ومعيَّته؛ فالله مع الصادقين، فمن يصدق الله يصدُقْه الله.
7- الصدق يُورِث البركة في كل شيء؛ فقد روى البخاري ومسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا، بُورِكَ لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما، مُحِقت بركة بيعهما»، حتى إنه قيل: ما افتقر تاجر صدوق قط.
8- الصدق سببٌ لتحقُّق الرؤى في المنام، فالرؤى جزء من النبوة، والرؤيا لربما بشَّرت بخير، أو حذرت من شرٍّ، وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثًا.
ومن مساوئ الكذب أنه علامة أهل الكفر والنفاق، والهادي إلى الفجور، والفجور إلى النار، ومن قبحه أن كل أحد يفر من الاتصاف به، ومن عاجل عقوبة الكذَّاب أن الناس لا تثق بقوله، ولا تقدر له قدره، وفي الغالب لا تُقبَل توبته، ولا يُعترف بها؛ فإخوة يوسف لما كذبوا على أبيهم في قصة مقتل يوسف، لم يقبل منهم صدقهم في قصة أخيهم، مع كثرة البراهين التي معهم؛ قال تعالى على لسان أخيهم: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 81 – 83].
عباد الله:
الصدق أنواع:
1- أعظم أنواع الصدق: الصدقُ مع الله بحسن الامتثال؛ بامتثال الأمر واجتناب النهي.
2- الصدق مع الناس: في قولك وعملك، ورأيك ونصحك، وعقدك الذي أبرمت على نفسك.
3- الصدق من النفس: وذلك بمصارحتها ومعالجة أخطائها؛ قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14، 15].
الصدق مراتب، أدناها – وليس فيها دانٍ – الصادق، وأبلغ منه الصدوق، وأعلى المراتب الصِّدِّيقيَّةُ، رزقني الله وإياكم هذه المرتبة؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
عباد الله:
الصدق خُلُقٌ نبيل، سار عليه النُّبلاء، وحرص عليه الشرفاء، اتصف به سائر الرسل والأنبياء، وتبِعهم عليه الصالحون الأولياء، وذِكْرُ أخبارهم مُعِين على التخلُّق بأخلاقهم، وتربية النشء على ما تربَّى عليه أسلافهم.
فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: ((غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غِبتُ عن أول قتال قاتلت به المشركين، لئن أشهدني الله قتالَ المشركين، لَيَرَيَنَّ الله ما أصنع، فلما حضرت أُحُدٌ، رأى سعد بن معاذ وقال له: الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحُدٍ، فقاتل واستُشهد، ووجدوا به بضعًا وثمانين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، حتى إنه لم يعرفه إلا أخته ببنانه، يقول أنس: ونظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه؛ قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، وهذا كعب بن مالك عندما صدق في تخلفه عن غزوة تبوك، وكان من الثلاثة الذين خُلِّفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم؛ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبْشِرْ بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك»، قلت: أمن عندك أم من عند الله؟ قال: «من عند الله»، قلت: يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألَّا أحدِّث إلا صدقًا ما بقيت، فو الله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى يومي هذا، وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقِيَ)).
عباد الله:
ألَا فلْنُربِّ أنفسنا على الصدق، وخيرُ معينٍ على ذلك قراءةُ فضائل الصدق، وسير الصادقين، والنظر في العواقب والمآلات؛ فهو دأب الصالحين والصالحات، ولنربِّ على ذلك أولادنا بأمرين مهمين:
1- ألَّا نكذب عليهم فهم – وإن كانوا صغارًا – يعرفون.
2- ألَّا نعاقبهم على صدقهم، حتى وإن أخطؤوا، فكم من ولد كذب فنجا، فحسب أن نجاته بسبب كذبه! وكم من ولد صَدَقَ فعُوقب، فحسب أن عقابه بسبب صدقه! ولهذا أثر كبير.
جعلني الله وإياكم من الصادقين، ورفعنا جميعًا لمنزلة الصديقين، مع النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فاللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
Source link