الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعـد
فمعنى الآية الكريمة هو كما قال الإمام الطبري في “جامع البيان”(24/ 513): “أحسن صورة وأعدلها”، ولكن ليس المقصود حسن تكوينه الجثماني، وإنما أراد أيضًا حسن تقويم الفطرة، وحسن تكوينه الروحي والعقلي الفريد.
وتأمل ما قال صاحب “الظلال” عند قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58، 59]: “إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يمني رحم امرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين، تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلا الله. والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها، كما لا يعرفون كيف تقع، بله أن يشاركوا فيها! وهذا القدر من التأمل يدركه كل إنسان، وهذا يكفي لتقدير هذه المعجزة والتأثر بها.
ولكن قصة هذه الخلية الواحدة منذ أن تمنى، إلى أن تصير خلقًا، قصة أغرب من الخيال. قصة لا يصدقها العقل لولا أنها تقع فعلاً، ويشهد وقوعها كل إنسان! هذه الخلية الواحدة تبدأ في الانقسام والتكاثر، فإذا هي بعد فترة ملايين الملايين من الخلايا، كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة ذات خصائص تختلف عن خصائص المجموعات الأخرى؛ لأنها مكلفة أن تنشئ جانبًا خاصًا من المخلوق البشري! فهذه خلايا عظام، وهذه خلايا عضلات، وهذه خلايا جلد، وهذه خلايا أعصاب… ثم… هذه خلايا لعمل عين، وهذه خلايا لعمل لسان، وهذه خلايا لعمل أذن، وهذه خلايا لعمل غدد، وهي أكثر تخصصًا من المجموعات السابقة.
وكل منها تعرف مكان عملها، فلا تخطئ خلايا العين مثلاً، فتطلع في البطن أو في القدم، مع أنها لو أخذت أخذًا صناعيًا فزرعت في البطن مثلا صنعت هنالك عينًا! ولكنها هي بإلهامها لا تخطئ فتذهب إلى البطن لصنع عين هناك! ولا تذهب خلايا الأذن إلى القدم لتصنع أذنا هناك! .. إنها كلها تعمل وتنشئ هذا الكيان البشري في أحسن تقويم تحت عين الخالق، حيث لا عمل للإنسان في هذا المجال”
وقال أيضًا عند آية سورة التين: “… ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الإنسان ابتداء في أحسن تقويم. والله- سبحانه- أحسن كل شيء خلقه.
فتخصيص الإنسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى بحسن التركيب، وحسن التقويم، وحسن التعديل.. فيه فضل عناية بهذا المخلوق.
وإن عناية الله بأمر هذا المخلوق- على ما به من ضعف وعلى ما يقع منه من انحراف عن الفطرة وفساد= لتشير إلى أن له شأنًا عند الله، ووزنًا في نظام هذا الوجود. وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق، سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد، أم في تكوينه العقلي الفريد، أم في تكوينه الروحي العجيب.
والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية؛ فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة، ويحيد عن الإيمان المستقيم معها.
وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني؛ فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين، كما تشهد بذلك قصة المعراج، حيث وقف جبريل- عليه السلام- عند مقام، وارتفع محمد بن عبد الله – الإنسان – إلى المقام الأسنى.
بينما هذا الإنسان مهيأ – حين ينتكس – لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين: 5]، حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم؛ لاستقامتها على فطرتها، وإلهامها تسبيح ربها، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى. بينما هو المخلوق في أحسن تقويم، يجحد ربه، ويرتكس مع هواه، إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[التين: 4] فطرة واستعدادا {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين: 5]، حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه، وبينه له، وتركه ليختار أحد النجدين””. اهـ. مختصرًا.
هذا؛ والله أعلم.
Source link