«إذا أراد اللهُ عز وجل بعبْدٍ خيرًا عَسَلَه» ، قيل: وما عَسَله؟ قال: «يفتَح الله عز وجل له عملًا صالحًا قبل موته ثم يَقْبِضُه عليه»
مصطفى شيخون
• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد اللهُ عز وجل بعبْدٍ خيرًا عَسَلَه» ، قيل: وما عَسَله؟ قال: «يفتَح الله عز وجل له عملًا صالحًا قبل موته ثم يَقْبِضُه عليه» [السلسلة الصحيحة].
• عن عمرو بن الحمق الخزاعي، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( «إذا أراد الله بعبْدٍ خيرًا استعمله» ))، قيل: وما استعمله؟ قال: (( «يفتَح له عملًا صالحًا بين يَدَي مَوْته، حتى يرضَى عنه مَنْ حولَه» ))؛ [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، والإمام أحمد في مسنده].
• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «إذا أراد الله بعبْدٍ خيرًا، طهَّرَه قبل موته» ))، قالوا: وما طَهُور العَبْد؟ قال: (( «عملٌ صالحٌ يُلهمُه إيَّاه حتى يقْبِضَه عليه» ))؛[صحيح الجامع].
مات وهو ساجد بين يدي الله … ماتت وهي في الحج مُلبِّية … مات وهو يقرأ القرآن …
إنها الخاتمة السعيدة … إنه حُسْنُ الختام.
ترى لماذا مات ساجدًا؟! وماذا كان يفعل حتى يموت وهو يترنَّم بآيات القرآن؟!
لا شكَّ أنه توفيق من الله لهذا العبد، وأعظم ما يمكن أن يكون من علامات التوفيق هو التوفيق للعمل الصالح… أراد الله له خيرًا؛ لأنه أرى اللهَ من نفسه خيرًا.
كان يُكثر السجود لله فمات ساجدًا … كانت لا تُفارق كتاب الله فماتت وهو بين يديها.
هؤلاء بنوا أعمالهم بأنفسهم، واختاروا مقاعدهم في الجنة وهم ما زالوا في الدنيا.
وإليك أيُّها الحبيب التعليق على الحديث:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا)):
إرادة الله لكَ أيها العبد تملؤها الخيريةُ من جميع جوانبها، فإذا مرضْتَ فصبرْتَ واحتسبْتَ، فهذا من إرادة الله لكَ الخير، وإذا ابتُليتَ فكُنتَ من الراضين الشاكرين، فهذا من إرادة الله لكَ الخير.
فهذه معادلة إيمانية يتحقَّق شطْرُها الأول، وهو حصول الخير، إذا تحقَّق شطْرُها الثاني، وهو الاستعمال في نصرة الدين والتوفيق لعمل الصالحات.
قال أحد السلف: “إذا أراد الله بعبد خيرًا، فتح له باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل…”، فماذا فتح لكَ من الأعمال؟
ويقول الشيخ الطريفي حفظه الله: “إذا أراد الله بالإنسان خيرًا، حبَّب إليه الخير وهيَّأ له أسبابه”.
وقال ابن القيم رحمه الله: “إذا أراد الله بعبده خيرًا، فتح له أبواب التوبة، والندم، والانكسار، والذل، والافتقار، والاستعانة به، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرُّع والدعاء، والتقرُّب إليه بما أمكنه من الحسنات، ورؤية عيوب نفسه، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه ورحمته، وجُوده وبِرِّه”.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((عسله))، ((استعمله))، ((يفتح له))، ((طهره)):
التعسيل: جاء في (تهذيب اللغة) ومعنى قوله: (( «إذا أراد اللهُ بعبْدٍ خيرًا عَسَله» ))؛ أي: طيَّب ثناءه، وقال بعضهم: أي جعل له من العمل الصالح ثناءً طيبًا كالعسل، كما يُعسَل الطعامُ إذا جُعِل فيه العسل؛ يقال: عسلت الطعام والسَّوِيقَ أعسِله وأعسُله، إذا جعلت فيه عسلًا وطيَّبته وحليته، ويُقال أيضًا: جارية معسولة الكلام، إذا كانت حلوة المنطق، مليحة اللفظ، طيبة النغمة، والعُسُل: الرجال الصالحون، قال: “وهو جمع عاسِل وعَسُول”، قال: “وهو مما جاء على لفظ فاعل وهو مفعول به”.
وفي مقاييس اللغة: (( «إذا أراد الله بعبْدٍ خيرًا عسله» )) معناه: طيَّب ذِكْره وحلَّاه في قلوب الناس بالصالح من العمل.
قلت: ولما كانت النَّحْلة لا تأكل إلا طيبًا، أخرجَتْ لنا طيِّبًا، وهو العسل، فالعسل نتيجة الزهور والرحيق الذي دأبَت النحل على أكله، وكذلك أنت أيها العبد إذا عِشْتَ على الصالحات، واعتدْتَ عليها، ولم تأكل إلا الطيِّبات، لن تموت إلا طيبًا بإذن الله، وكأن الله يخرج أحلى ما فيكَ قبل موتِكَ، وهذا هو التعسيل، وأمارة هذا التعسيل أن يرضى عنكَ مَنْ حولكَ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((… «حتى يرضَى عنه مَنْ حولَه» ))، يُقال: إن الشيخ الألباني رحمه الله كان يدعو لمن صنع إليه معروفًا بقوله: “عسلك الله”.
الاستعمال: استعمله فلان: أي سأله أن يعمل له، فأنت أيها العبد، لمنْ تعمل؟ عند مَنْ تعمل؟ هل تعمل لله؟ أم لأحدٍ سواه؟
فالناس نوعان: نوعٌ مستعمَل، ونوع مستبدَل، فانظر: أي النوعين أنت؟
إذا أردت أن تعرف مقامكَ عند الله، فانظر: فيمَ استعمَلكَ؟ فإذا أحبَّ الله عبدًا استعمله في الخير، وجعل حوائج الناس إليه، وفتح على يديه باب الأعمال الصالحة، وجعله أداة خيرٍ للناس.
أن يكون لك عشرة إخوة، وتختاركَ أمُّكَ أنت؛ لتقضي لها حاجتها، فهذا من استعمال الله لكَ.
أن يقف بجواركَ رجل عجوز على الرصيف لتأخُذ بيده إلى الجانب الآخر من الطريق، فهذا من استعمال الله لكَ.
الفتح: فتح الله عليه: أنار بصيرته، علَّمه، هداه وأرشده، وفتح الله قلبه للأمر: شَرَحه له.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (( «يفتَح له عملًا صالحًا بين يَدَي مَوْته» …)) يدلُّ ذلك على تيسير عمل الصالحات، وكأنه فتح له ما لم يفتح لغيره.
أحيانًا تشعُر أنك لم تكن ترى فأصبحت ترى، رؤيا قلبية، هذا فتحٌ من الله، وأحيانًا تشعُر أنكَ لم تكن تهتمُّ بوالديكَ اللذين قد كبرا في السِّنِّ، فأصبحتَ تهتمُّ بهما الآن، هذا فتحٌ من الله لكَ.
قال بعض السلف في اسم الله الفتَّاح: “الذي فتح قلوب المؤمنين بمعرفته، وفتح على العاصين أبواب مغفرته، فإن كان عاصيًا فالله عز وجل يفتح له باب المغفرة، وإن كان مؤمنًا يفتح له باب معرفته”.
وقال بعضهم: الفتَّاح هو الذي يفتح أبواب الخير على عباده، ويُسهِّل عليهم ما كان صعبًا.
وقال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (( «لأُعْطينَّ هذه الرايةَ غدًا رجُلًا يفتَحُ اللهُ على يَدَيه» ))، هل سألتَ نفسكَ يومًا: هل أنا مِفتاحُ خيرٍ للناس؟ ماذا فتح الله على يديكَ؟
بعض الناس يفتح له في باب الصدقة والعناية بها، فالمفترض أن يلزم هذا الباب ويستمرَّ فيه، وبعض الناس يفتح له في الإصلاح بين الناس، فالمفترض له أيضًا أن يلزمه، انظر ماذا فتح الله لكَ ثم عليكَ به.
التطهير: طهَّره؛ أي: برَّأه ونزَّهه من العيوب وغيرها.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (( «طهَّره قبل موته» …))؛ أي: نقَّاه من ذنوبه وخطاياه، بأن ألهمه الله التوبة منها قبل وقوع أجله، ووفَّقه قبل موته للابتعاد عما يُغضبه سبحانه، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.
قال المناوي: “(( «إذا أراد الله بعبْدٍ خيرًا، طهَّرَه قبل موته» ))، قالوا: وما طَهُور العَبْد؟ أي: ما المراد بتطهيره؟ قال: (( «عملٌ صالحٌ يُلهمه» ))؛ أي: يلهمه الله تعالى إياه… ويدوم كذلك (( «حتى يقبضه عليه» ))؛ أي: يُميتُه وهو متلبِّس به، فمن أراد الله به خيرًا طهَّره من المادة الخبيثة قبل الوفاة؛ حتى لا يحتاج لدخول النار ليُطهِّره، فيلهمه الله تعالى التوبة، ولزوم الطاعات، وتجنُّب المخالفات، أو يُصاب بالمصائب وأنواع البلاء المكفرات؛ ليطهر من خبائثه مع كراهته لما أصابه: {﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ } [البقرة: 216]؛ ولهذا كان الأب أو الأم يسوق لولده الحجَّام أو الطبيب ليُعالجه بالمراهم المؤلمة الحادة، ولولا إطاعة الولد لما شُفي”، فمرضُكَ قبل موتِكَ دليلُ إرادةِ اللهِ لكَ الخيرَ قبل موتكَ.
عسّلني الله وإياكم، وجعلنا من الطاهرين المطهَّرين.
اللهم استعمِلنا، ولا تستبدِل بنا، اللهم وفِّقنا للسعي إلى مراضيك، اللهم توفَّنا وأنت راضٍ عنا، اللهم افتح لنا أبواب الخير، واجعلنا مفاتيحَ خيرٍ مغاليقَ شرٍّ، وارزُقنا العلم النافع، والعمل الصالح.
Source link