أحرج حق الضعيفين – طريق الإسلام

فلا تَظْلِمنَّ إذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِراً.. فالظُّلْمُ آخِرُهُ يُفْضي إلى النَّدَمِ.. تَنَامُ عَيْنَاكَ وَالـمَظْلُومُ مُنتَبِهٌ.. يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ..

معاشر المؤمنين الكرام: جُبِلَتِ النُّفُوسُ على حُبِّ المَالِ والحرصِ على تحصيله ولو على حساب مصلحةِ الآخرين؛ ولذَلك فحبُّ المال مِنْ أَكْبَرِ أَسبَابِ الظلمِ والنِّزَاعِ، خَصوصاً بَيْنَ الشركاء، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24].. ولقد حَرَّم الله عزّ وجلّ الظلمَ على نفسه، وجعلهُ بين العباد محَرَّماً، ففي صحيح مسلم، قال الله تعالى: «يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا»..

 

ومن صور الظلم والجور التي انتشرت واستفحل ضررها، وحصل بسببها خلافاتٌ ونزاعاتٌ ومحاكم، حتى بين أبناء العائلةِ الواحدة، ألا وهي قضيةٌ الظلمِ في تقسيم الميراث، والتّحايلِ في أكل حقوق الورثة، فكم من امرأةٍ وطفلٍ أُكِلت حقوقهم، وكم من إخوةٍ تواطؤوا على أخيهم أو أختهم، كيف وقد حذّرهم الله أشدَّ التحذير، فقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].. وفي الحديث الحسن، قال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمَّ إنِّي أحرِّجُ حقَّ الضَّعيفينِ: اليتيمِ، والمرأَةِ»..

 

ولشيوع ما كان يحدثُ عند تقسيم المِيرَاثِ من نزاعٍ وخِلَافِ، ولكثرةِ ما كان يقعُ من ظلمٍ وعَدَمِ إِنصَاف؛ لذا فقد تَوَلَّى اللهُ تعالى بنفسه؛ تَوزِيعَ التَّرِكَةِ بَينَ الوَرَثَة، وفصَّل أنصبتها تَفصِيلًا دَقِيقًا؛ منعًا للخُلف والنِّزَاعِ، وحِفْظًا لِلمَالِ مِنَ الضَّيَاع؛ قال تعالى: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11].. وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ»..

 

فالتَّوزِيعُ الإِلَهِيُّ العادل: وضَع حَدًّا حاسماً لِنِزَاعِ الوَرَثَة: فَمَنْ تَجَاوَزَهُ أو تَحَايَلَ عَلَيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَهُ بِالمِرْصَادِ، قال تعالى (بَعْدَ آيَاتِ المَوَارِيثِ): {ومَنْ يَعصِ اللهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين} [النساء:14].. وتأمل كيف جعلَ اللهُ تقسيمهُ للمِيرَاثُ وَصِيَّةً منهُ لِعِبَادِهِ؛ فقال تعالى في مطلع آياتِ توزيع الميراث: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء:11]، وقال في آخر السياق: {وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيم} [النساء:12].. فَمَنْ ظلمَ وَارِثَاً شيئاً من حَقَّهِ؛ فَقَدْ خَالَفَ وَصِيَّةَ اللهَ وتعدى حدوده، فله بنصِّ الآيةِ عذابٌ مهين..

 

ومَنِ اتَّقَى اللهَ في حَيَاتِهِ؛ تَوَلَّى اللهُ وَرَثَتَهُ بَعدَ مَمَاتِهِ، وجَنَّبَهُمُ النِّزَاعَ والخصام.. تأمل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]..

 

ثم إنّ مِمَّا يُقَلِّلُ النِّزَاعَ بَيْنَ الوَرَثَة: أن يتحلى الجميعُ بالصِّدق والأَمَانَة، ومُراقبةِ علّام الغيوبِ جلّ وعلا، وأَنْ يُفْصِحَ كُلٌّ مِنهُم إن كان في ذِمَّتِهِ شيئاً مِنْ أَموَالِ المُوَرِّثِ، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]..

 

ومِمَّا يُقللُ النِّزَاعَ بَينَ الوَرَثَة: السَّمَاحَةُ في المعامَلة، وتَرْكُ الطَّمعِ والمشَاحنةِ؛ فإِنَّ السَّماحةَ سَببٌ لِنُزولِ الرَّحماتِ، وحصُولِ البرَكاتِ، في الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللهُ عبدًا سَمْحًا إذا باعَ، سَمْحًا إذا اشْتَرى، سَمْحًا إذا قَضَى، سَمْحًا إذا اقْتَضَى».. ثم إنّ ما يتركهُ الميتُ من أموالٍ وميراث، ينبغي أن يجمعَ الأسرةَ لا أن يُفرِّقها، وأن يقوِّيها لا أن يُضعِفها، والمسلم الموفق لا يُغلِّبُ حُبُّ المال على حبِّه لإخوانه وأخواته، وغيرهم من ذوي قرباته.. قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].. ووالله إن أموالَ الدُّنيَا كلها؛ لا تُسَاوِي غمسةً واحدةً في نَارِ جَهَنَّم، فاتقوا الله وَأَدُّوا الحُقُوقَ لِأهلها؛ وليأخذ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ غير منقوص، قَبْلَ أَلَّا يَكُونَ دِينَارٌ ولَا دِرهَمٌ، ففي صحيح البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ: أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ؛ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» . وفي صحيح مسلم: «فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيهِ: أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُم فَطُرِحَتْ عَلَيهِ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّار»..

 

وإن مِمَّا ينبغي أن نتواصى به جميعاً، خصوصاً من كان له مالٌ يورثه، أن نهتم بكتابة الوصية، ففي الحديث المتفق عليه، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ إلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي..

فالوصية مستحبَّةٌ لمن ترك خيرًا وكان له ما يورِّثه، وهي واجبةٌ لمن كان في ذمته حقوقٌ للناس؛ وكم نسمعُ عمن يستدينُ ديناً ولا يوثقه، ولا يخبرُ به أحدًا حتى زوجته، فيموت ويبقى الدين في ذمته إلى يوم القيامة، وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الديون أيّما تحذير.. ففي الحديث الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ».. وفي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: «هاهُنا أحَدٌ مِن بَني فُلانٍ» ؟ قالوا: نَعَمْ، قال: «إنَّ صاحِبَكم مُحتبَسٌ على بابِ الجنَّةِ في دَينٍ عليه».. فينبغي للمسلم الحريص على مصلحته في الآخرة، أن يبادرَ بكتابة وصيتهِ، وألا يُسوِّفَ فالموت يأتي بغتةً.. وليعلمْ أنَّ في كتابتَها أجوراً كثيرةً، تصله حتى بعد موته بإذن الله، وبالوصية يُدرأُ شرٌّ كثير، وتحفظُ بها حقوقَهُ وحقوقَ الآخرين، وبها يُنزعُ فتِيلَ الخلافِ بين الورثةِ، فلا نزاعَ ولا محاكمَ بإذن الله..

 

فاكتبْ يا عبد الله وصيتك بكل دقة ووضوحٍ، وبين فيها كُل ما هو لكَ أو عليكَ من الحقوق.. وحدد ما تريدُ أن تتبرَعُ به لغير الورثة، على ألا يتجاوز الثلث، ففي البخاري: «والثلث كثير» ، واحذر أن تجعل في وصيتك مَا يضرُ الوَرَثَةَ أو يُنقصهم حقّهم، ففي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّك أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغنِيَاءَ؛ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»..

 

ألا فاتقوا الله عباد الله وقدِّموا لأنفسكم صالحاً، فالحياة قصيرة، والأيام سريعة، والصوارفُ كثيرة: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين} [الزمر:56]..

 

معاشر المؤمنين الكرام: الأيام تمضي، والدهر يتقلب، والظلم لا يدوم، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].. وفي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلته» ، ثم قرأ الآية: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد} [هود:102]..

 

والظَّلَمَةُ وأهل البغي: يلعنُهُمْ مَنْ فِي الأرضِ، ويلعنهم مَنْ فِي السَّماء، بَلْ تلعنُهُمْ جميعُ المخلوقاتِ، حتَّى الحيتانُ فِي بحارِها؛ والطيورُ فِي أَوْكارِها؛ وحتى النَّمْل في جحورها، قدْ مات قلب الظالم, ونَامَت عينه، وأعينُ المظلومِين ساهرةٌ تدعُو عليهِ من يجيب المضطر إذا دعاه.. ألا إنَّ أنفذَ السِهامِ دعاءُ المظلوم، تصعَدُ دعواتهُ حرّى كأنَّها إعصارٌ فيه نارِ، قدْ كُشِفَ الحجابُ بينَها وبينَ الواحدَ القهَّارَ، في الحديث الصحيح: «ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمامُ العادل، ودعوةُ المظلومِ يرفعها الله فوقِ الغمامِ، ويفتحُ لها أبوابَ السماء، ويقول لها الرب: وعزَّتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعدَ حين»..

 

فلا تَظْلِمنَّ إذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِراً.. فالظُّلْمُ آخِرُهُ يُفْضي إلى النَّدَمِ.. تَنَامُ عَيْنَاكَ وَالـمَظْلُومُ مُنتَبِهٌ.. يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ..

 

ألا فليعلم كلُّ من يقعُ في شيءٍ من الظلم أنّ صاحبَ الحقّ وإن لم يستوفِ حقّهُ في الدنيا، فسوف يستوفيهِ غداً في الآخرة.. يوم يقومُ الناسُ لربّ العالمين، وسوف يستوفيهِ بميزان الحسنات، حينما يكونُ صاحبها أحوجَ ما يكونُ إليها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن كانت له مَظْلَمَةٌ لأحدٍ من عِرْضِه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخِذ منه بقدر مَظْلَمَته، وإن لم تكن له حسناتٌ أُخِذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه».. والحديث في البخاري.. وفي صحيح مسلم: «فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ»..

 

فأيها الظالم احذر: فالجبار يقول في محكم تنزيله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65].. احذر وتذكر: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].. احذر وتذكر: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].. احذر وتذكر: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]..

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُون} [هود:112]..

 

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت وكما تدين تدان…

 

اللهم صل على محمد..

__________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الأشهر الحرم وخطر ظلم النفس وظلم الغير

قوله تعالى في الآية : {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}، أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *