كيف نجمع بين قوله تعالى {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وخلق المعوقين – خالد عبد المنعم الرفاعي

الإجابة:

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومن والاه، أمَّا بعدُ:

فقبل بيان ما أشكل على الأخ السائل ينبغي التنبيه على مسألة تظهر وجه الجواب، فالله تعالى يفعل الصلاح و الأصلح للجنس، ولا يجب على الله سبحانه فعل الصلاح والأصلح للمعين، وهذا يعني أن الله تعالى في الوجود لا يخلق إلا الخير المحض أو الخير الغالب، فالخير المحض أصلح، والخير الغالب صلاح، أو العكس!

 فالله سبحانه لا يخلق الخير مساويًا للشر، ولا يخلق الشر أكثر من الخير الغالب وما ليس فيه خير ولا شر لأن هذا ليس  صلاح و أصلح يعني في الجنس و لا الشر الغالب لأهل الخير، و لا من لا خير فيه و لا شر، و لا ما شره غالب. هذا ليس صحيحًا و لا الأصلح في الجنس.

أما وجود بعض الخلق المعوقين كالعميان، فإن الشر الذي في الوجود نوعان: شر محض حقيقي من كل وجه، وشر نسبي إضافي من وجه دون وجه، فالأول لا يدخل في الوجود؛ إذ لو دخل في الوجود لم يكن شرًا محضًا، وإنما يدخل في الوجود الشر النسبي الإضافي: “كالبرد الشديد والحرق والغرق ونحو ذلك مما يصيب الحيوان والنبات فيحدث فيه الفساد، فهذا لا ريب انه شر وجودي مستند إلى سبب وجودي ولكنه شر نسبي إضافي، وهو خير من وجه آخر؛ فإن وجود ذلك الحر والبرد والماء يترتب عليه مصالح وخيرات كلية، هذا الشر بالنسبة إليها جزئي، فتعطيل تلك الأسباب لتفويت هذا الشر الجزئي يتضمن شرًا أكثر منه وهو فوات تلك الخيرات الحاصلة بها؛ فإن ما يحصل بالشمس والريح والمطر والثلج والحر والبرد من مصالح الخلق أضعاف أضعاف ما يحصل بذلك من مفاسد جزئية، هي في جنب تلك المصالح كقطرة في بحر، هذا لو كان شرها حقيقيًا فكيف وهي خير من وجه وشر من وجه، وإن لم يعلم جهة الخير فيها كثير من الناس، فما قدَّرها الرب سبحانه سُدى، ولا خلقها باطلاً”. قاله الإمام ابن القيم في كتابه “شفاء العليل”(ص: 183).

ثم بين (ص: 269) أن: “الشر الجزئي الإضافي في المقضي المقدر ويكون شرًا بالنسبة إلى محل، وخيرًا بالنسبة إلى محل آخر، وقد يكون خيرًا بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه كما هو شر له من وجه، بل هذا هو الغالب؛ وهذا كالقصاص وإقامة الحدود وقتل الكفار، فإنه شر بالنسبة إليهم لا من كل وجه، بل من وجه دون وجه وخير بالنسبة إلى غيرهم؛ لما فيه من مصلحة الزجر والنكال ودفع الناس بعضهم ببعض، وكذلك الآلام والأمراض وإن كانت شرورًا من وجه فهي خيرات من وجوه عديدة؛ فالخير والشر من جنس اللذة والألم والنفع والضرر، وذلك في المقضي المقدر لا في نفس صفة الرب وفعله القائم به، فإن قطع يد السارق شر مؤلم ضار له، وأما قضاء الرب ذلك وتقديره عليه فعدل خير وحكمة ومصلحة.

وقد أجرى الله سبحانه سنته وعادته أن حلاوة الأسباب في العاجل تعقب المرارة في الآجل، ومرارتها تعقب الحلاوة، فحلو الدنيا مرُ الآخرة، ومر الدنيا حلو الآخرة؛ وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل اللذات تثمر الآلام، والآلام تثمر اللذات، والقضاء والقدر منتظم لذلك انتظامًا لا يخرج عنه شئ البتة، والشر مرجعه إلى اللذات وأسبابها، والخير المطلوب هو اللذات الدائمة، والشر المرهوب هو الآلام الدائمة فأسباب هذه الشرور وإن اشتملت على لذة ما، وأسباب تلك خيرات وإن اشتملت على ألم ما؛ فألم يعقب اللذة الدائمة أولى بالإيثار والتحمل من لذة تعقب الألم الدائم، فلذة ساعة في جنب ألم طويل كلا لذة، وألم ساعة في جنب لذة طويلة كلا ألم”.

إلى أن قال (ص: 248): “والرب تعالى اقتضت قدرته وعزته وحكمته إيجاد المتقابلات في الذوات والصفات والأفعال، وقد نوع خلقه تنويعًا دالاً على كمال قدرته وربوبيته، فمن أعظم الجهل والضلال أن يقول القائل: هلا كان خلقه كلهم نوعًا واحدًا فيكون العالم علوًا كلَّه، أو نورًا كلّه، أو الحيوان ملكًا كله، وقد يقع في الأوهام الفاسدة أن هذا كان أولى وأكمل، ويعرض الوهم الفاسد ما ليس ممكنًا كمالاً”.

 

وقال (ص: 250-251): “فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها وإما لتولدها عن لذات ونعم يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن يكون من لوازم العدل أو لوازم الفضل والإحسان، فيكون من لوازم الخير التي إن عطلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام، والشرع والقدر أعدل شاهد بذلك؛ فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ}، وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف من الحيوانات، وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة، ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولدة منها، بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كالعلم والشجاعة والزهد والعفة والحلم والمروءة والصبر والإحسان كما قال:

لولا المشقة ساد الناس كلهم … الجود يفقر والأقدام قتال

وإذا كانت الآلام أسبابًا للذات أعظم منها وأدوم منها، كان العقل يقضي باحتمالها، وكثيرًا ما تكون الآلام أسبابًا لصحة لولا تلك الآلام لفاتت؛ وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان مالا يعلمه إلا الله، وفيها من إذابة الفضلات، وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها، وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب. وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة؛ فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها، وقد أحصيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة.

وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره، وجعلها جسرًا موصلاً إليها، كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات، وجعلها جسرًا موصلاً إليها؛ ولهذا قالت العقلاء قاطبة:  إن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن الراحة لا تنال بالراحة، وأن من آثر اللذات فاتته اللذات.

فسنة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك، وقيل لكل منهم أرجع بصر العقل فهل ترى من خلل: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها، فأخرج الحي من الميت والميت من الحي، والرطب من اليابس واليابس من الرطب، فكذلك أنشأ اللذات من الآلام والآلام من اللذات. فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها.

 فأين آلام الحيوان من لذته، وأين سقمه من صحته، وأين جوعه وعطشه من شبعه وريه، وتعبه من راحته؛ قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}، ولن يغلب عسر يسرين؛ وهذا لأن الرحمة غلبت الغضب، والعفو سبق العقوبة، والنعمة تقدمت المحنة، والخير في الصفات والأفعال والشر في المفعولات لا في الأفعال، فأوصافه كلها كمال، وأفعاله كلها خيرات.

 فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقل من نسبة ذرة إلى جبال الدنيا بكثير، وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة. والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سدى، ولم يقدرهما عبثًا، ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحد منهما يثمر الأخرى، هذا ولوازم الخلقة يستحيل ارتفاعها كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق؛ فلا يكون المخلوق إلا فقيرًا محتاجًا ناقص العلم والقدرة، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم في عالم الكون والفساد لم يكن حيوانًا، ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة، والله لم يجعلها كذلك، وإنما جعلها دارا ممتزجا ألمها بلذتها وسرورها بأحزانها وغمومها وصحتها بسقمها= حكمة منه بالغة.

فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه، وإنما ابتلاه ليعافيه، وإنما أماته ليحييه، فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب كماله طورًا بعد طور إلى آخر كماله بأسباب لا بد منها، وكماله موقوف على تلك الأسباب، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص، ولوازم ذلك ولوازم تلك اللوازم، ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته وعلمه وكماله، فيفرض أمورًا ممتنعة، ويقدّرها تقديرًا ذهنيًا، ويحسب أنها أكمل من الممكن الواقع، ومع هذا فربُّها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها، فإن اعترفت بذلك واعترفت له بكماله وحمده، وقامت بمقتضى هذين الاعترافين= كان نصيبها من الرحمة أوفر”.

إذا تقرر هذا علم، أن من فضَّله الله في الخَلق على غيره، فهو من تفضّل الله عليه، والتفضل ليس واجبًا على الله، بل الله يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء بحكمته، إنما العدل هو ما أوجبه الله على نفسه، فلا يظلم الناس شيئًا، فلا يشاؤه وتنزه عنه؛ لكمال حكمته.

ويفعل لحكمة يعلمها تتعلق بالفعل يحبها ويرضاها، وهو يُعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه، وما يشاهد في الوجود من الضرر أو الشر، فيخلقه لحكمة؛ كما قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، قال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه} [السجدة: 7]، فالضرر الذي تحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شرًا مطلقًا، وإن كان شرًا بالنسبة إلى من تضرر به، وكلما ازداد العبد علما وإيمانا، ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، وتبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]، وقوله: {بَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 191]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16]، وقوله: { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3].

أيضًا فإن فَعل الله ما يشاءُ بأسبابٍ وحِكَمٍ وغاياتٍ من كمالِ ملكه وعلمِهِ وحكمتِهِ؛ كما قال تعالى: {لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23].

أما قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، فتتكلم عن حسن التركيب، وحسن التقويم، وحسن التعديل، وعناية الله بالإنسان التي تتجلى في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق، سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد، أم في تكوينه العقلي الفريد، أم في تكوينه الروحي العجيب.

وإن كان المراد هنا خصائصه الروحية؛ لأنها هي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها، لأن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين.

وفالفطرة الإنسانية مهيأة لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين، ومهيأ- حين ينتكس- لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5].

فالآية الكريمة تتعر لشأن الفطرة والاستعدادا للخير، أو الشر حين تنحرف عن جادة الصواب؛ ومن أجل هذا استثنى سبحانه المؤمنين فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]،، والله أعلم.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

زيادة البلاء مع زيادة الطاعة – خالد عبد المنعم الرفاعي

الإجابة: الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمَّا بعدُ: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *