الحكمة من مخالفة الطريق في العيدين

(كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج إلى العيدين، رجع في غير الطريق الذي خرج فيه)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان يومُ عيدٍ، خالف الطريق))؛ (أخرجه البخاري)، وفي الترمذي، وابن ماجه وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج إلى العيدين، رجع في غير الطريق الذي خرج فيه)).

 

وقد اختلف العلماء في الحكمة من ذلك، وتكلموا في المعنى الذي لأجله كان، وكثُرت في ذلك الأقوال، وتعددت التعاليل، وبعيدًا عن صحتها وقوتها أو ضعفها ووهائها، فقد أحببتُ أن أذكر شيئًا منها، أو مما عللوه بها، على أن بعض أهل التحقيق قد ذكروا أن أكثرها دعاوى فارغة، والأمر لا يخلو من فائدة، وحتى لا أطيل؛ فأقول: منها:

1) أنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك ليشهد له الطريقان؛ قالوا: لأن الأرض يوم القيامة ﴿  {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}  ﴾ [الزلزلة: 4]؛ أي: تخبر بما عُمِل عليها من خير وشر، وهذا مما قال فيه السيوطي كما في التوشيح شرح الجامع الصحيح (3/ 900): “أقربها”.

 

2) وقيل: من أجل سكانهما من الجن والإنس.

 

3) وقيل: ليسوِّيَ بينهما صلى الله عليه وآله وسلم في مزية الفضل بمروره.

 

4) وقيل: لأن طريقه صلى الله عليه وآله وسلم للمصلَّى كانت على اليمين، فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال، فرجع من غيرها؛ قال الحافظ: “وهذا يحتاج إلى دليل”.

 

5) وقيل: لإظهار شعار الإسلام فيهما؛ قال بعض العلماء: لأن الناس إذا جاؤوا من هذا الطريق زرافاتٍ ووُحدانًا، وهجروا الطريق الثاني لم تتبيَّن هذه الشعيرة في الطريق الثاني، وصارت منحصرة في الطريق الأول، فإذا خرجوا من هنا، ورجعوا من هناك، صار في هذا إظهار لهذه الشعيرة في الطريقين.

 

6) وقيل: لإظهار ذكر الله.

 

7) وقيل: ليغيظ الأعداء من المنافقين أو اليهود.

 

8) وقيل: ليُرْهِبَهم بكثرة من معه؛ ورجحه ابن بطال، فقال كما في شرح صحيح البخاري (2/ 572): “وأَولاها عندي – والله أعلم – أن ذلك ليرى المشركين كثرة عدد المسلمين، ويرهب بذلك عليهم”.

 

9) وقيل: حذرًا من كيد الطائفتين أو إحداهما؛ وتعقبه ابن التين فقال: “فيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لم يكرره”، قال الحافظ: “وتعقب – يعني: ابن التين – بأنه لا يلزم من مواظبته على مخالفة الطريق المواظبةُ على طريق منها معين، لكن كما في رواية الشافعي من طريق المطلب بن عبدالله بن حنطب مرسلًا: أنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( «كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم، ويرجع من الطريق الأخرى» ))، قال الحافظ: وهذا لو ثبت لقوَّى بحث ابن التين”.

 

10) وقيل: فعل ذلك صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليعمهم السرور به؛ فيسر بذلك من يراه من المسلمين والمسلمات.

 

11) وقيل: ليزور صلى الله عليه وآله وسلم أقاربه الأحياء والأموات.

 

12) وقيل: ليصِلَ صلى الله عليه وآله وسلم رَحِمَه.

 

13) وقيل: ليتفاءل صلى الله عليه وآله وسلم بتغير الحال إلى المغفرة والرضا؛ فإنه يُرجَى لمن شهد العيد أن يرجع مغفورًا له.

 

14) وقيل: كان في ذهابه صلى الله عليه وآله وسلم يتصدق، فإذا رجع لم يبقَ معه شيء، فيرجع في طريق أخرى لئلا يرد من يسأله؛ قال الحافظ: “وهذا ضعيف جدًّا، مع احتياجه إلى الدليل”.

 

15) وقيل: فعل ذلك صلى الله عليه وآله وسلم لتخفيف الزحام؛ وهذا رجحه الشيخ أبو حامد، وابن الصلاح، وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي في حديث ابن عمر رضي الله عنه فقال فيه: (ليسع الناس)؛ قال الحافظ: “وتعقب بأنه ضعيف، وبأن قوله: (ليسع الناس) يحتمل أن يفسر ببركته وفضله، وهذا الذي رجحه ابن التين، وفي الحديث كما قال ابن رجب عبدالرحمن: ضعيف جدًّا، وقال: معنى الاتساع في الطريق: أنه يخشى كثرة الزحام في الطريق الأول”.

 

16) وقيل: كان طريقه صلى الله عليه وآله وسلم التي يتوجه منها أبعد من التي فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخُطى في الذهاب، وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله؛ وهذا اختيار الرافعي؛ قال الحافظ: “وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل، وبأن أجر الخطى يُكتب في الرجوع أيضًا، كما ثبت في حديث أبي بن كعب عند الترمذي وغيره، فلو عكس ما قال، لكان له اتجاه، ويكون سلوك الطريق القريب للمبادرة إلى فعل الطاعة، وإدراك فضيلة أول الوقت“.

 

17) وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات؛ فأراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يشهد له فريقان منهم؛ قال ابن الجوزي: “رُوِيَ أن الملائكة تقف يوم العيد على أفواه الطرق”، فكأنه أراد أن يمر على من لم يمر عليه منهم.

 

18) قال ابن أبي جمرة: هو في معنى قول يعقوب لبنيه: ﴿  {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ}  ﴾ [يوسف: 67]، فأشار إلى أنه فعل ذلك؛ حذرَ إصابة العين.

 

19) وقيل: كما قال ابن القيم في زاد المعاد: “وقيل – وهو الأصح – إنه لذلك كله ولغيره من الحِكَمِ التي لا يخلو فعله عنها”، وقال الكوراني الحنفي في الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 93): “ولا تنافيَ بين الوجوه، يجوز أن يكون الكل غرضًا”.

 

20) وقيل: ليكْثُرَ التقاء المسلمين بعضهم ببعض والتودد.

 

21) وقيل: كان يغدو صلى الله عليه وآله وسلم في أطول الطريقين؛ لأنه يقصد الطاعة فتُحتسب خُطاه، ويرجع في أقصرهما؛ لأنه رجوع عن الطاعة؛ وهذا هو الذي رجحه كثير من الشافعية، ومنهم البغوي في شرح السنة (4/ 314)، والنووي في المجموع، وصححه ابن الملقن، وهو مما قال فيه السيوطي كما في التوشيح شرح الجامع الصحيح (3/ 900): “أقربها”.

 

22) وقيل: عكس ذلك؛ لحديث أبي هريرة: ((كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعثمان إذا خرجوا إلى العيد من طريق، رجعوا في طريق آخر أبعد منه))؛ قال ابن رجب: “وسليمان بن أرقم، متروك، ولا أصل لحديثه هذا بهذا الإسناد، وعلى تقدير أن يكون له أصل، فيمكن توجيهه بأن القاصد لصلاة العيد ينبغي له قصدها من أقرب الطرق؛ لأنه إن كان إمامًا فلئلا يطول انتظاره، وإن كان مأمومًا فخشية أن يُسبَق بالصلاة أو بعضها، أو أن يتمكن من صلاتها في مكان يمكنه الاقتداء فيه بالإمام؛ ولهذا شُرِع له التبكير؛ ليقرب من الإمام”.

 

23) وقيل: ليتصدق في الطريقين؛ قال بعض العلماء: لأنه قد يكون في الطريق الثاني فقراء ليسوا في الطريق الأول، فيجودون عليهم ويُدْخِلون عليهم السرور؛ لأنه في يوم العيد ينبغي للإنسان أن يوسِّع على أهله وإخوانه، ويدخل السرور عليهم، ويبسط لهم في الرزق؛ لأن العيد يوم فرح وسرور؛ وهذا مما قال فيه السيوطي كما في التوشيح شرح الجامع الصحيح (3/ 900): “أقربها”.

 

24) وقيل: للتبرك بمروره؛ ولتعم الناس بركته من كل جهة، ووسم هذا القول ابن الملقن بأنه أقواها، وهو مما قال فيه السيوطي كما في التوشيح شرح الجامع الصحيح (3/ 900): “أقربها”.

 

25) وقيل: للانتفاع به في قضاء حوائجهم.

 

26) وقيل: للسلام، وكذا التسليم على من لم يسلِّم عليه.

 

27) وقيل: للاستفتاء أو التعلم؛ لحاجتهم إليه.

 

28) وقيل: للاقتداء والاسترشاد.

 

29) وقيل: لرؤية من لم يَرَهُ من المسلمين.

 

30) وقيل: للتفاؤل بإلقاء الذنوب في طريق المضي، والرجوع متنظفًا.

 

31) وقيل: لإعلان التكبير ذاهبًا وغاديًا، فأراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون تعليمه للناس وتذكيره إياهم بتكبير الله عز وجل في الطريقين.

 

32) وقيل: للتفاؤل؛ لأن العَود من طريق بدأ منه يشبه نقض العمل؛ قاله محمد أنور شاه في فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 477).

 

33) وقيل: ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها؛ لأنه كان معروفًا بذلك.

______________________________________________________

المراجع:

• كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 58).

• فتح الباري (2/ 473).

• فتح الباري (6/ 166) لابن رجب.

• المجموع (5/ 12).

• الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 16) لابن هبيرة.

• التوضيح لشرح الجامع الصحيح (8/ 146) ابن الملقن.

• الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 86).

• عمدة القاري (10/ 339).

• وإرشاد الساري (2/ 226).

• الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 93) للكوراني.

• وكوثَر المَعَاني (10/ 294) محمد الخَضِر.

• فيض القدير (5/ 157) المناوي.

• زاد المعاد (1/ 448)، وعنه سبل السلام (1/ 435).

• الشرح الممتع (5/ 132).

_________________________________________________________
الكاتب: بكر البعداني


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *