هي من أعظم الشعائر التي يفعلها المسلم تقربًا إلى الله تعالى، وإحياء لسُنَّةِ خليل الله ونبيه إبراهيم عليه السلام، وتذكيرًا بذلك الحدث العظيم، وهذه الأُضحيَّة ليست مجرد ذبح ذبيحة فحسب، ولكنها أشمل من ذلك، وأعم وأوسع
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أنْ جعلْتَنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد أيها الكرماء الأجلاء، عباد الله:
فإن من شعائر ديننا الحنيف شعيرةَ الأُضحيَّة؛ قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36].
وهي من أعظم الشعائر التي يفعلها المسلم تقربًا إلى الله تعالى، وإحياء لسُنَّةِ خليل الله ونبيه إبراهيم عليه السلام، وتذكيرًا بذلك الحدث العظيم، وهذه الأُضحيَّة ليست مجرد ذبح ذبيحة فحسب، ولكنها أشمل من ذلك، وأعم وأوسع؛ ففي مشروعيتها معانٍ عظيمة، وحِكَمٌ بليغة، وإن من أجَلِّ ما تحمله تلكم الشعيرة من معانٍ: معنى التضحية؛ والتضحية تعني: بذل كل ما يستطيع المسلم تقديمه، وبذله والتضحية به؛ من النفس، والمال، والوقت، والحياة، والجهد، وغيرها؛ وذلك ابتغاء مرضاة الله وثوابه، دون طلب جزاء الخلق وشكرهم.
أيها المسلمون: إن الأُضحيَّة ما جاءت إلا بعد تضحية، بل تضحيات من خليل الله إبراهيم عليه السلام وأسرته المباركة؛ حيث التضحية والفداء، والبذل والعطاء، والتسليم والوفاء؛ فلقد ابتُلِيَتْ هذه الأسرة في شخوصها وأفرادها، فردًا فردًا؛ إبراهيم وسارة وهاجر وإسماعيل – ابتلاءات وامتحانات تئِن من حملها الجبال الرواسي، ولا تثْبُت أمامها الصُّمُّ الصِّلاب.
فهذا إبراهيم عليه السلام رأس هذه الأسرة وإمامها وقدوتها، ابتلاه ربه بكلماتٍ عظيمة، واختبره بأوامرَ ونواهٍ كثيرة، ومحن هائلة، لكنه ضحَّى عليه السلام واستسلم؛ ابتلاه بدعوة قومه عبدةِ الأصنام والأوثان، ومحاجتهم، فدعاهم وحاجَّهم في الله، فأقام عليهم الحجة، وألقمهم الحجر، فلما قامت عليهم الحجة، عدلوا إلى أخذه باليد والقهر، فتشاوروا في أمره، وقالوا: ابنوا له بنيانًا، واملؤوه حطبًا، فأضرموا فيه النار، ثم ألقَوه فيه؛ {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97]؛ قال سليمان بن سرد: “لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار، جعلوا يجمعون له الحطب، حتى جعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها الحطب، وتقول: أذهبُ به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا”.
وقال ابن عباس: “بنَوا له حائطًا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وملؤوه نارًا وطرحوه فيها”؛ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
أرادوا أن يثأروا لآلهتهم المحطَّمة، فبالغوا في العقوبة؛ لشدة حَنَقِهم وغيظهم، وحفظًا لهيبة آلهتهم المزعومة، أرادوا قتله عليه السلام أشنعَ قِتلة، فردَّ الله كيدهم في نحورهم، وجعلهم هم الأسفلين المقهورين المغلوبين؛ إذ نفذت حُجَّته من حيث لم يمكنهم دفعها، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم؛ قال الله: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 98]، فلما نجَّاه ربه العظيم بقدرته منها، أخرجوه فابتُليَ بالهجرة ومفارقة وطنه وبلده، ففعل، ثم ابتلاه الله بالملك الظالم مع سارة، عندما أراد هذا اللعين منها ما أراد، فأنجاها الله برحمته وحفظه لأوليائه، فنجت ونجا، وظفِرت برضا الله وظفِر، ثم ابتلاه الله بمحاجة الطاغية العنيد النمرود بن كنعان، ففعل، وحجَّ الظالم حتى بُهِت الذي كفر.
ثم ابتلاه الله في زوجه هاجرَ وولدها الوحيد، فأمره بترك ابنه الرضيع – والذي جاءه على كِبَرٍ – وأمه بوادٍ غير ذي زرع، في أرض مُسْبِعة ذات هَوامٍّ ووحوش، فأذعن بأخذها ورضيعها الصغير، وإلقائهما في مهالك الصحاري الْمُقْفِرة.
وكما ضحَّى إبراهيم وسلَّم تمام التسليم، ضحَّت زوجته وسلَّمت، لما رأت نفسها وحيدة في الصحراء المهلِكة، مع صغير رضيع، ينتظران الموت مع كل لحظة وفي كل حين، فما سألت عن حكمة مثل هذا، ولا قالت: بيِّن لنا الهدف والغاية والمراد، حتى يسهُلَ علينا الأمر، أو يهدأ القلب، أو يستريح الصدر، بل قالت قول المؤمنة البارة الراضية بكل تسليم ورضًا: آلله أمرك بهذا؟ فلما قال: نعم، قالت بكل أريحية ويقين وثقة: إذًا لن يُضيِّعنا.
ثم ابتلاه بالبلاء الذي وصفه سبحانه بأنه {الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]؛ إنه أعظم بلاء تعرض له إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو تلك الرؤيا التي رآها، «ورؤيا الأنبياء حق»؛ أنه يذبح ابنه الوحيد إسماعيلَ عليه السلام، وهو الذي جاءه بعد أن بلغ من الكبر عِتيًّا، وقد بلغ معه السعيَ، فصار يسعى في مصالح أبيه، ويساعده في العمل، إنه ليس بالأمر الهين أن يُرزَقَ شخص في شيخوخته ابنًا، وعندما يبلغ التسعين أو قريبًا من ذلك، يأمره الله في المنام أن يذبح ابنه هذا، فيستعد لذبح ابنه الوحيد؛ عملًا برؤياه حرفيًّا.
وكذلك ضحَّى الصبي الحليم، صاحب القلب الرشيد، والرأي السديد، فلما عرض عليه الرؤيا؛ ليطيب قلبه، ويهوِّن عليه الأمر: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، ما قال: إنه منام، ولعل وربما، ولا قال: كبِرت سنُّك يا أبي، فتثبَّت، ولا قال: ولِمَ؟ وما الحكمة؟ وماذا يعود على الله من وراء قتل صغير بغير ذنب ولا علة، وهو الغني الحميد؟ وإنما استسلم هذا الابنُ البارُّ لأمر الله تعالى، ولقد سجَّل الله تعالى جوابَ الابن هذا أيضًا في القرآن الكريم؛ حيث قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].
أيها المسلمون: إن حال إبراهيم حين همَّ بذبح ابنه بأمر الله تعالى، لم يكن مجرد استعداد فقط، بل إنه شَرَعَ فعلًا في ذلك بإلقاء ابنه على الأرض، ووضعه السكين على رقبته بالفعل؛ {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103].
ألقاه على وجهه؛ لئلا يشاهده حال الذبح، ناداه الله تعالى: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104، 105].
وفداه عز وجل: {بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، وجعلها سُنَّةً باقيةً إلى يوم القيامة، فهي أضحيتكم التي تذبحونها لله تعالى في عيد الأضحى، فهل نستشعر ونحن نشتري الأُضحيَّة ونذبحها تلك القصة العظيمة من التسليم والانقياد والتضحية؟ فلم تأتِ الأُضحيَّة إلا بعد التضحية، بل بعد تضحيات، فجاءت فداءً لتضحية خليله إبراهيم الكبرى، التي لم يشهد التاريخ مثيلًا لها.
عباد الله، إن إبراهيم عليه السلام قد أبْلَى في تضحيته، فصار كما قال ابن عباس رضي الله عنه: “ما قام بدين الله كله إلا إبراهيم عليه السلام؛ قدَّم جسمه للنيران، وماله للضيفان، وقدم ولده للقربان؛ قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، فقام بأمر الله كله؛ وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]، فكان وحده أمةً”.
وكما قال ابن القيم عنه: “ولده للقربان، وجسده للنيران، وماله للضيفان، فاستحق أن يكون خليلَ الرحمن”، وهكذا يكون العظماء.
فعجبًا لهذه العائلة المباركة، أسرة ثابتة قدَّمت للإسلام، وعاشت الإيمان واليقين، ألَا مِن إبراهيم جديدٍ في الأمة؛ يترك رضيعه وزوجه في الصحراء، وينطلق {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] مهاجرًا إلى ربه؛ {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26].
ألَا مِن هاجرَ جديدةٍ؛ تفدي الإسلام، وتعلم المسلمين حقيقة التوكل، وروعة اليقين في الله رب العالمين (إذًا لن يضيعنا)، وكذلك جمال السعي إلى يوم الدين.
ألَا من إسماعيلَ جديد؛ يقدِّم روحه ونفسه وحياته طاعةً لربه، وتنفيذًا لأمره، وطلبًا لرضاه؛ {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
فلقد ضرب الخليل عليه السلام أروعَ الأمثلة في التضحية والتسليم لأمر الله تعالى، وكذا ضحَّت أسرته المباركة، وجاء من بعدهم أقوامٌ أبدعوا في التضحية؛ فنالوا من ربهم التزكية.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس تضحية، فقد تحمَّل صلى الله عليه وسلم أذى كفار قريش، ومقاطعتهم له ولمن معه، وقاتلوه، فجاهد في سبيل الله، وضحى بكل ما يملك، طوال حياته؛ كان صلى الله عليه وسلم يحب مكة كثيرًا، فهي بلدته التي عاش فيها وترعرع، ومع هذا ضحى ببلده في سبيل أن ينشر دعوته، لم يردَّه حب الديار عن همِّ نشر الرسالة، ووقف عليها صلى الله عليه وسلم؛ كما في الحديث حيث قال: «والله إنك لأحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومكِ أخرجوني منكِ ما خرجت»، قام بتبليغ رسالته، وضحَّى من أجل ذلك بنفسه وماله، ووطنه وأهله، صلى الله عليه وسلم.
وقد اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، فضحَّوا بالنفس والمال والأهل، وبكل غالٍ؛ فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يضحي بنفسه عندما بات في فراش رسول الإسلام ليلة الهجرة، ليُوهِمَ كفار قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال نائمًا في فراشه، وهو يعلم يقينًا أنهم سوف يقتلون من ينام على هذا الفرش؛ ظنًّا منهم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الصحابي الجليل حنظلة رضي الله عنه؛ فقد ضحَّى بنفسه عندما خرج للجهاد صبيحة ليلة زفافه، وقبل أن يغتسل من جنابته، وسقط شهيدًا في غزوة أحد؛ ففي سنن البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن صاحبكم تغسله الملائكة – يعني حنظلة – فاسألوا أهله ما شأنه»، فسُئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جُنُب، حين سمع الهائعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لذلك غسَّلته الملائكة».
وهذا هو الصحابي عمرو بن الجموح، وكان رجلًا أعرجَ، كبيرًا في السن، وقد أصر على الخروج للجهاد في غزوة أُحُد، على رغم عرجته وكِبر سنه، وحاول أبناؤه منعَه الذهابَ للجهاد، ولكنه أصر على التضحية والمشاركة قائلًا: “والله إني لأرجو أن أطَأَ بعرجتي هذه الجنة، فما زال يقاتل حتى استُشهد في سبيل الله”؛ ففي مسند أحمد: ((أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قاتلتُ في سبيل الله حتى أُقتل، أمشي برجلي هذه صحيحةً في الجنة، وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»، فقُتلوا يوم أحد هو وابن أخيه، ومولًى لهم، فمرَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحةً في الجنة».
وهذه هي الصحابية أم عمارة نسيبة بنت كعب، تضحي بنفسها، وتشارك المجاهدين في غزوة أُحُد، وتدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحمي ظهره حتى أثْخَنَتْها الجِراح.
وروى ابن عساكر في تاريخه: “أن عمرَ وجَّه جيشًا إلى الروم، فأسروا عبدالله بن حُذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقال له ملك الروم: تنصَّر؛ أقاسمك مُلْكي، وأزوِّجك ابنتي، فرفض عبدالله، فقال له ملك الروم: تنصِّر؛ أعطِك ملكي كله، وأزوِّجك ابنتي، فرفض، فأمر ملك الروم به أن يُصلَب، ويرمي الرماة حول أطرافه، وألَّا يصيبوا منه مقتلًا، ثم أُمِر به فأُحْضِر، فعرض عليه النصرانية فأبى، فأمر ملك الروم بإناء كبير أن يُملَأ زيتًا، ثم يُوقَد عليه حتى يغلي، ثم أمر بواحد من أسرى المسلمين فأُلقِيَ في هذا الزيت، فتحول إلى عظام في الحال، وعبدالله ينظر، فعرض عليه النصرانية فأبى، فأمرهم أن يحملوه، ويُلْقوه في الزيت، فلما حملوه بكى، فأمرهم أن يرجعوا به، فقال له عبدالله: لا تظنَّ أني إنما بكيت جزعًا من الموت، ولكني كنت أتمنى أن يكون لي من الأنفس بعدد ما في جسمي من الشعرات، ثم تسلَّط عليَّ فتقتلني، ثم أُبعث فتسلط عليَّ فتقتلني، فلما علمت أنه ليست لي إلا نفس واحدة يُفعَل بها هذا في سبيل الله بكيت، فقال له ملك الروم: قبِّل رأسي وأنا أطلق سراحك، فقال: أفعلُ بشرط أن تُطلِقَ سراحَ مَن معي من المسلمين، فوافق، ففعل، وكان معه ثمانون من المسلمين، فلما رجعوا إلى عمر بن الخطاب قال: حقٌّ على كل مسلم أن يُقبِّلَ رأس عبدالله، وأنا أبدأ، فقام فقبَّل رأسه”.
ومن بعد كل هذا ظلَّت أمة الإسلام أمةَ التضحيات، فكم قدَّمت من الشهداء! وكم بذلت من الأموال! وكم سطَّر أتباعها من البطولات مضحِّين لأجل الله!
ولن يحيط محيط بتضحيات الأمة في عصر واحد، فكيف بمر العصور، ولكن دونكم اليوم درسًا في التضحية بل دروسًا، ونحن في موسم الأُضحيَّة، ونحن نعدِّد صورًا من تضحيات الأمة، فما أحوجنا لاستلهام درس التضحية!
ليت الأمة تتعلم التضحية، فالإسلام تكاثَرَ عليه الأعداء، تكالبت عليه الأكَلَةُ من الأمم، حُرِق كتابه واستُهزئ بنبيه، سُلِبت المقدسات، وانتُهِكت الأعراض، سُفكت الدماء، واضطُهد العلماء، أصبح الإسلام غريبًا في وطنه، وأمسى الدين طريدًا بين أهله، من له؟ من يفديه؟! من يضحي من أجله؟!
فالإسلام أحوج ما يكون الآن إلى مُضحِّين وفادِين، من أوقاتهم ومن أموالهم ومن أبنائهم، ومن كل ما أعطاه الله لهم، حتى يسمو الفرد وتعلو الأمة، حتى ينتصر الدين، وتعلو راية الحق المبين، فالعاملون للدين يضاعف الله أجرهم، ويسهل الله طريقهم، ويرفع شأنهم، ويعلي الله ذكرهم، فتذكرهم الأجيال جيلًا بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54].
أجل أيها الأحبة، التضحية مَعْلَم راقٍ، ودرس عظيم، وعمل لا يتمثَّلُه إلا الكرام من الناس، فهل أنت مستعد للتضحية؟
دعني – إذًا – أقول لك: ثمة أمور من حولك تحتاج لحزم حازم، وتضحية عازم؛ رفقتك التي تؤزُّك للعصيان، وتباعدك عن الإيمان، ألِفوك وألِفتَهم حتى صرت لا تفارقهم، ليسوا أكرم من ابن إبراهيم، فضحِّ بهم؛ لأجل ربك، وإبقاءً على دينك.
وكم من امرئ ما ردَّه عن الخير إلا رفقة الشر، وإن لم يضحِّ اليوم بهم، فربما قال غدًا: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38].
مكسبك الذي يدخل عليك من وجه محرم؛ من ربا أو غيره، واللهِ لن تجد فيه بركةَ دنيا، ولا ربح دين، مهما كثر، ضحِّ به؛ إرضاءً لمولاك، وتحرَّ الحلال في ربحك.
راحتك ضحِّ بها في سبيل نشر دينك، وإسعاد الناس، وهداية الحيارى، فالدعوة والعلم يحتاجان منك لعناء، ومفارقة الدَّعَةِ، لكنها تضحية لأجل الأمة كلها، فطوبى لك.
ملذاتك من سمعٍ محرَّمٍ، ونظر مذموم، وخطوة آثمة، قد آنَ لك أن تضحيَ بها كلِّها، وإن هَوَتْها نفسك، لأجل خالقك، أجل – يا موفَّق – فما بالنا نضحي بأنعامنا، ولا نضحي برغباتنا المحرمة، وآثامنا الموبِقة؟ لا تقل: اعتدت هذا الذنب، فلن أقدر على تركه، أحببت هذا الأمر فلن أطيق مباينته، فليس ذلك أحب ولا أغلى على إبراهيم من ابنه، الذي أراد أن يضحي به لأجل أمر ربه.
فمن يسمو؟ ومن يفر ويجري؟ من يمسك؟ ومن يعطي ويفدي؟ ومن يطيع؟ ومن يرغب ويعصي؟ {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130].
وختامًا: فجميلٌ أن تضحِيَ بشاتك، وأجمل منه أن تجمع مع ذلك أن تضحي بكل خَلَّةٍ مستكرهة، وخَصلة ذميمة، ولئن كان العلماء قد اختلفوا في وجوب الأُضحيَّة، فإن هناك واجباتٍ لم يختلفوا فيها، يجب عليك أيها المسلم أن تضحي لله فيها بما تستطيع، فتبذل من جهدك ووقتك ومالك، وهذه تضحية لأجل ربك، وربك يستحق منك كل شيء، فضحِّ لأجله، وستجد أنه سبحانه هو الكريم حقًّا، يعطي على القليل الكثير، ومن تقرب منه ذراعًا، تقرَّب الرب منه باعًا.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المسارعين في الخيرات، والمسابقين في عمل الصالحات، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، ومن عمل السيئات، اللهم أحسِنْ عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وأقم الصلاة.
_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
Source link