فعلى المسلم، أن يبدأ بهدفه أولًا، ثم يرتب أعماله الأخرى حسب أهميتها، وعليه ألَّا تختلط عليه الأمور وهو يسير إلى هدفه، فهناك أمور كلها هامة، فتتداخل فيضيع بينها، فليكن دقيقًا في ترتيبها حسب الأهمية والوقت…
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد؛ أما بعد:
فقد سافر اثنان لدراسة البكالوريوس في إحدى الدول، وكانا متميزَينِ في جميع ما يتعلق بالدراسة، إلا أن بينهما فرقًا واحدًا؛ وهو أن أحدهما كان ينهي ما يُطلَب منه للدراسة أولًا، ثم إن بقِيَ معه وقت، خرج للنزهة والتعرف على البلد وأماكنه، أو أجَّل ذلك إلى إجازة الأسبوع، وأما الثاني، فقد كان يذهب للتنزه والتعرف على البلد، ثم يعود ليذاكر دروسه، فيتمكن مرات، ويخفق مرات كثيرة.
ظل الثاني هناك سنتين، فلم يتمكن من الاستمرار لتراكم المقررات، وجدية الدراسة، فقرر العودة إلى بلده، التحق بجامعة فسار فيها سنوات، ثم انتقل إلى جامعة أخرى، وفي النهاية أنهى مرحلة البكالوريوس، في حين أن زميله الأول قدم رسالة الدكتوراه للمناقشة؛ ليعود دكتورًا في إحدى الجامعات.
هذا نموذج لاثنين؛ أحدهما توجه للهدف أولًا، والآخر يؤخر القيام بالعمل حتى يضيق عليه الوقت، وقد يكون تطبَّع على ذلك؛ فهو متأخر عن مواعيده، ومتأخر في إنجاز أعماله، وغالبها تتم دون إتقان.
وقد تكون من قاعدته التي يسير عليها: أن تصل متأخرًا خير من ألَّا تصل، فالعمل الذي يُنْجَز في ساعة، يُنْجِزه هو في يوم، وما يقوم به المنجزون في سنة، يقوم به هو في سنوات، والحمد الله فقد حققت الهدف.
ولو تأملنا في التاريخ والواقع، لوجدنا أن نهضة الدول، والتطور يقوم في غالبه على المنجزين المتقنين، الذين يقومون بأهدافهم أولًا، ويعرفون ماذا يريدون صنعه اليوم، وغدًا، وبعد سنة بحول الله، ولا تقوم الحضارة والتطور والنجاح على الذي يؤجل عمل اليوم إلى الغد، فضلًا عمن يؤجله إلى سنة.
والمسلم محاسَب على هذه اللحظات، وسيُسأل عنها، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي نبَّهنا على أهمية الوقت في قوله وعمله، كان حريصًا على إنجاز الهدف أولًا، مع أن حياته كلها عبادات، وإنجازات، فقد كان يقدم الهدف الذي يريد، ثم يبدأ بالذي بعده في ترتيب دقيق جدُّا، وهو صلى الله عليه وسلم أقوى محفِّز لنا لنسير على هَدْيِهِ، ونقتبس من نوره.
فمما جاء في ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم زار اثنين من أصحابه رضي الله عنهم، وصلى عندهما وأكل، لكنه بدأ عند أحدهما بالصلاة، وبدأ عند الثاني بالأكل، فقد كان مدعوًّا عند الأول ليصلي في بيته، وكان مدعوًّا عند الثاني على طعام صنعه له، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالهدف الذي جاء له، ثم توجه لغيره من أعمال البر والتقوى؛ ففي حديث عتبان بن مالك، قال: ((يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار، سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتيَ مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله، أنك تأتيني فتصلي في بيتي، فأتخذه مصلًّى، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأفعل إن شاء الله، قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذِنتُ له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبَّر، فقمنا فصفَّنا، فصلى ركعتين ثم سلَّم، قال وحبسناه على خَزِيرةٍ[1] صنعناها له …))؛ [الحديث][2]، فتأمل في قول راوي الحديث: “فلم يجلس”، حتى انتهى من الهدف الذي أتى لأجله؛ وهو الصلاة.
وعن أنس بن مالك، ((أن جَدَّته مليكة دَعَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له، فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصلِّ لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا، قد اسودَّ من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصففت واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم انصرف))[3]، فهنا بدأ بالأكل.
والأمثلة من السيرة النبوية كثيرة.
فعلى المسلم – وبخاصة طالب العلم – أن يبدأ بهدفه أولًا، ثم يرتب أعماله الأخرى حسب أهميتها، وعليه ألَّا تختلط عليه الأمور وهو يسير إلى هدفه، فهناك أمور كلها هامة، فتتداخل فيضيع بينها، فليكن دقيقًا في ترتيبها حسب الأهمية والوقت؛ ومما جاء في ذلك ما رواه عقبة بن الحارث رضي الله عنه، قال: ((صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فلما سلم قام سريعًا، دخل على بعض نسائه، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته، فقال: ذكرت وأنا في الصلاة تِبرًا عندنا، فكرهت أن يمسي – أو يبيت عندنا – فأمرت بقسمته))[4]، فهنا عنده صلى الله عليه وسلم أذكار الصلاة، وعنده قسمة الذهب كلها مهمة، فقدَّم صلى الله عليه وسلم قسمة الذهب على أذكار الصلاة.
وقد تتزاحم عنده بعض الأمور فيَحار في أيِّها يقدِّم، ويدخل عليه الشيطان من هذا الباب، فإذا بدأ في قراءة كتاب علمي، أو حضور درس، ثم أتته دعوة لجلسة أخوية، أو زيارة دعوية، أو عيادة مريض، أو اتباع جنازة، ترك الكتاب، وأجَّل الدرس، وفي نفسه حديث أنه في عبادة، وأنه على خير، وهذا حق، فهو على خير، لكن إن أمكن الجمع بين العلم وبين هذه العبادات، فالحمد لله، وهذا من توفيق الله، وإن لم يمكن فعليه بترتيبها حسب الأهمية، فالأصل أن العلم مقدَّم عليها، لكنه قد تكون جنازة قريب، أو زيارة تصل إلى حد الفرضية، فهنا يؤجِّل بعض القراءات والدروس ثم يعود إليها، وهذا استثناء وليس هو الأصل، وهناك من يجعل هذه الاستثناءات أصلًا، فيذهب عليه الوقت، فيخبو شيئًا فشيئًا عن العلم والدروس، ثم يضعُف عن جميع هذه العبادات مع الوقت، فإذا سقط العلم، فالغالب أنه تسقط معه كثير من العبادات، إلا من وفَّقه الله، وبقِيَ متمسكًا بهذه العبادات، ومحافظًا على ما وعاه قلبه من العلم يومًا ما.
وقد كان البدء بالأهم فالأهم هي وصية العلماء لطلابهم؛ يقول ابن عثيمين رحمه الله: “وليبدأ الطالب بالأهم فالأهم”[5].
بل أوصى رحمه الله بوصية دقيقة في المحافظة على الهدف عند البحث عن المسائل، فقال: “أما المطالعة، فكذلك ينبغي أن يُلاحَظَ فيها مسألة تعرِض لطالب العلم، تجده يريد أن يصل إلى الحكم في مسألة معينة، فإذا فتح الكتاب، وراجع الفهرس، وجد عناوين تشد انتباهه، فيشتغل بهذا العنوان عما كان يريده؛ لأنه يروق له هذا العنوان، فيشتغل به.
فمثلًا: يريد أن يبحث عن حكم مسألة في الربا، فمرَّ عليه مسألة في الحج، وهو يطالع الفهرس، فذهب ينظر إليها، فهذا يضيع الوقت، ويحرم الفائدة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بالغرض الأصلي الذي جاء إليه، لما دعاه عتبان بن مالك رضي الله عنه إلى بيته ليصلي له في مكان يتخذه مصلًّى، فأول ما وصل صنع له عتبان طعامًا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجلس للطعام، بل قال: (( «أين تحب أن أصلي من بيتك» ؟))، وطلب أن يبين له المكان ليصلي؛ لأنه إنما جاء لهذا الغرض.
وهذه قاعدة: ينبغي للإنسان أن يبني عليها عمله، إذا كنت تريد أن تطالع مسألة ما فلا تشتغل بغيرها؛ لأنه يذهب عنك الوقت، ويشوش الفكر، بل استمر فيها”[6].
ومن الأمور التي تحتاج إلى تنبيهٍ أن المحافظة على الهدف والأهم تعني أن ينجز كل شيء في وقته، فلا يشتغل بهدف لسنوات، وهو ينتهي في أشهر، أو يشتغل به لأسابيع، وهو ينتهي في أيام، وهذه وصية أوصاني بها الدكتور/ محمد بن إبراهيم الحمد، فلما كنت أكتب في رسالة الدكتوراه، اتصل بي وقال لي: “العمل الذي يُنجَز في شهر وتستطيع إنجازه في أسبوع مع الإتقان، فأنجزه في أسبوع، فإنك لا تدري ما يطرأ لك من طوارئ الحياة وأمورها، وانتهاؤك مبكرًا يجعلك مرتاحًا في باقي مدة التفرغ العلمي، ولو تأخرت مناقشتك”، أو كلامًا قريبًا من هذا.
وقد وجدت ثمرة هذه الوصية في رسالة الدكتوراه وفي غيرها من أمور الحياة، وأهم ما وجدت هو خلو الذهن من همِّ العمل المؤجَّل، وسلامة النفس من القلق الذي يصاحب تأخير الأعمال.
ويضع بعض أصحاب الإدارة جدولًا يرتبون فيه أمورهم، ويقسمونها من حيث الأهمية والعَجَلة؛ وهذه الأمور هي:
1- أمور هامة عاجلة؛ ويسمى (مربع الأزمات).
2- أمور هامة غير عاجلة؛ ويسمى (مربع المستقبل).
3- أمور غير هامة وعاجلة؛ ويسمى (مربع الخداع).
4- أمور غير هامة وغير عاجلة؛ ويسمى (مربع الضياع).
وبعد هذا الترتيب يوصون بالآتي:
1- التخلص من الأمور غير الهامة، سواء كانت عاجلة أو غير عاجلة؛ مربع الضياع، ومربع الخداع، ولا يشغل نفسه فيها، وقد يستطيع أن يتخلص من الأمور غير الهامة وغير العاجلة، لكن أكثر ما تخدعه الأمور غير الهامة والعاجلة، فتشغله اللحظة الحاضرة والعجلة في الموضوع عن إدراك أن هذا أمر غير هام؛ لذا يسمى (مربع الخداع)، وبعد مدة يدرك أنه لم ينتفع من هذا الأمر؛ لذا على المرء أن يتأمل، ولا يُخدَع بمثل هذه الأمور؛ كي لا يضيع عليه الوقت، وأن يبتعد عن أسبابها، وعن الأشخاص العجِلين فيها الذين يشوشون عليه فكره؛ فيتخذ قرارات خاطئة.
2- عليه أن يحرص على إنجاز الأمور الهامة، ويبدأ بالعاجل منها (مربع الأزمات)، وإن استطاع أن يوكِل أحدًا بقضائها، فهو أفضل وأولى، ومن الأمثلة: شراء مستلزمات البيت؛ كالأكل وغيره، فهذا هام وعاجل، فإن استطاع أن يوكِل أحد أبنائه، أو يقوم المحل بتوصيلها فليفعل.
أما الأمور الهامة غير العاجلة (مربع المستقبل)، فهنا لا بد أن يجد نفسه، ويسخر جهده، ويخطط له، ويستفرغ وسعه؛ مثل: التخطيط للمستقبل، وتربية الأولاد، وطلب العلم، وتأليف كتاب نافع، ومشروع كبير، وغيرها فهذه تحتاج إلى تركيز، وجهد، ودراسة، وتعب، وقد يقف كثير من الناس أو يُصاب بالإحباط واليأس في هذه الأعمال؛ لأنه لا تُرَى ثمارها إلا بعد سنوات، فعلى الحكيم العاقل أن يتفكر في جمال النتائج، وإن طال انتظارها، وأن الوقت يجري سريعًا، وسيأتي اليوم الذي يقطف هذه الثمار، أو ينال جزاءها وافرًا عند الله، فمن سار إلى الله بصدقٍ، بلَّغه الغاية وإن مات قبل ذلك.
وقبل كل هذه التخطيطات والترتيبات، على المسلم أن يلجأ إلى الله، وأن يتضرع بين يديه أن يعمُرَ وقته بما هو أهم، وما يقربه إلى الله، وأن يجعله في المكان المناسب الذي هيَّأه الله له، وأعطاه من الصفات ما تبلغه هذا المكان، فإنه لا عيب أشد من نقص القادرين على التمام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] قال ابن حجر في تعريف الـ(خزيرة): “قال ابن قتيبة: تُصنَع من لحم يقطع صغارًا، ثم يُصَب عليه ماء كثير، فإذا نضِج، ذُرَّ عليه الدقيق، وإن لم يكن فيه لحم فهو عصيدة”؛ [فتح الباري 1 /521].
[2] رواه البخاري، برقم: 425، ومسلم، برقم: 33.
[3] رواه البخاري، برقم: 380، ومسلم، برقم: 658.
[4] رواه البخاري، برقم: 1221.
[5] مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، 26/ 138.
[6] التعليق على مقدمة المجموع، لابن عثيمين، ص 116-117.
____________________________________________________________
الكاتب: د. مرضي بن مشوح العنزي
Source link