الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ
فمما لا شك فيه أن الإصرار على المعصية أكبر خطرًا من نفس المعصية، فالإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، والإصرار على الكبيرة قد يوقع صاحبه في الشرك عياذًا بالله كما حرره الإمام ابن القيم في كتابه “مدارج السالكين“.
أما مشاهدة المواقع الجنسية فمن الأمور المحرمة بَدَاهةً، ومن البلايا التي تؤدِّي إلى قساوةِ القَلب، والغفلة وعن ذِكْره، والجرأة على الله تعالى، وإمراض النَّفس، وما يتبع ذلك من والتَّهاون بالمعصية.
والواجب على من أبتلي بذلك المسارعة بالتوبة والاستِغْفار، ومع العزم على عدم العود، والندم على ما فعل، وعدم التهاون بالمعصية حتى لا يحال بينه وبين التوبة؛ لأن العبد إذا تمادى في الذنب حال الله بينه وبين قلوبه؛ كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، وقال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] وفي تلك الآيات من العبرة والموعظة لكل عاقل، فهي صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة، حيث يفصل الله بين العبد وبين قلبه، ويستحوذ – سبحانه – على هذا القلب ويحتجزه، ويصرّفه كيف شاء، ويقلِّبه كما يريد، وصاحبه لا يملك منه شيئاً وهو قلبه الذي بين جنبيه! إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم، اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته، والحذر من كل هاجسة فيه، وكل ميل؛ مخافة أن يكون انزلاقًا، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس. والتعلق الدائم بالله- سبحانه- مخافة أن يقلّب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة من غفلاته، أو دفعة من دفعاته.قاله صاحب الظلال.
أما العلاج الناجع لعدم تكرار تلك المعصية، فيكون بأخذ النفس بالقوة وبغير رخاوة ولا تميع؛ كما قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63]، فلا سبيل مع شرع الله لغير الجد والحق، فالواجب على العبد أن يتلقى أوامر الله ونواهيه بالإقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المتجمع الهمّ والعزيمة، المصمم على تلك التكاليف، ويودع الرخاوة والضعف مع النفس؛ فقد قال الله تعالى لرسوله- صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } [المزمل: 5]، وقال لنبيه يحي بن زكريا عليهما السلام: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].
فلا بد من أخذ العهد مع الله على الاستقامة، بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم؛ فدين الله منهج حياة، منهج يستقر في القلب تصوراً وشعوراً، ويستقر في الحياة وضعاً ونظاماً، ويستقر في السلوك أدباً وخلقاً، وينتهي إلى التقوى والحساسية برقابة الله وخشية المصير.
وهذا الكلام سهلاً بالقول ولكنه قوي وصعب بالفعال، ومن ثمّ يحتاج للأخذ بالأسباب التي تعين على عدم العود للذنب إخراج الشهوة من القلب، وأخذ النفس بالحزم وعدم تعريض النفس للفتن، والفرار منها، وأعظم ما يعين على الصبر عن المعصية الإكثار من الأعمال الصَّالحة؛ قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، وقال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، وقال النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – لمعاذ بن جبل يوصيه: ((يا معاذ، اتَّق الله حيثُما كنت، وأتْبِع السيِّئة الحسنة تَمْحُها، وخالقِ النَّاس بخلُق حسَن)).
وفي الصَّحيح عنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه قال: ((الصَّلوات الخمس، والجمُعة إلى الجمُعة، ورمضان إلى رمضان، كفَّارات لما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائِر))؛ أخرجاه في الصَّحيحين.
وفي الصَّحيح عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((مَن صام رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه))، وقال: ((أرأيتم لو أنَّ بباب أحدكم نهرًا غمرًا يغتسل فيه كلَّ يوم خَمس مرَّات، هل كان يبْقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا، قال: ((كذلك الصَّلوات الخَمس، يَمحو الله بهنَّ الخطايا كما يَمحو الماءُ الدَّرن)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “جموع الفتاوى“(16/58): “فالتوبة النصوح هي الخالصة من كل غش، وإذا كانت كذلك كائنة فإن العبد إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمن خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يعد إلى الذنب، فهذه التوبة النصوح وهي واجبة بما أمر الله تعالى.
ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب قبل الله توبته الأولى ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضا، ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يُصرَّ؛ بل يتوب ولو عاد في اليوم مائة مرة؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله يحب العبد المفتن التواب”، وفي حديث آخر: “لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار”، وفي حديث آخر: “ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة”. اهـ.
من تلك الأسباب المعينة أيضًا: قطع خطرات المعصية، واستحضار العقل وإعمال الفكر، وعدم الاسترسال مع تغيبه عند غلبة الشهوة، مع التفكير في عواقب المعصية وشؤمها.
منها: الاعتصام بالله تعالى من الشيطان الرجيم بالاستعاذة، وقراءة آية الكرسي، والمعوذتين، وإدمان ذكر الله الله تعالى فإنه يقوى القلب والبدن، ويزيد اليقين في الله تعالى والتوكل عليه، ومن أعظمه المواظبة على قول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإن بها تكابد الأهوال وتنال رفيع الدرجات.
ومنها: تقوية الخوف من الله هو: استشعار عظمته تعالى، وأنه يعلمُ سرَّ العبد وجَهْرِه.
قال الأستاذ سيد قُطْب – رحمه الله – في “الظِّلال”: “الخوف من الله هو الحاجز الصُلْبُ أمام دَفَعَات الهوى العنيفةِ، وَقَلَّ أن يَثبُتَ غيرُ هذا الحاجز أمام دَفَعَات الهَوَى”.
وتحصيلُ الخوفِ إنما يكونُ بتحصيلِ المُرَاقَبَةِ؛ فمن علم أنَّ الحَفَظَة الكاتبين يُرَاقِبُونَ أعمالَهُ، وأنَّه حيثما حلَّ مُتَابَعٌ، وأنَّ طريق الهروب من الله مسدودٌ، ولا حيلة له إلا الاستسلامُ، والانقيادُ، والإقبالُ عَلَى طاعَةِ الله، والاستفادةُ من المُهْلَةِ الممنوحة له؛ إذ لا يدري متى يتخطَّفُهُ الموتُ، ويصير إلى ما قدَّم – فلا يحتقر المعاصي؛ لأنهم لا يأمنون مَكْرَ الله تعالى؛ قال عزَّ مِنْ قائل: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، وقال صلى الله عليه وسلم: عن الإحسان، قال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
منها: الدعاء بالهداية والاستِقامة والثَّبات عليهما؛ فالله – تعالى – بفضله ورحمته جعَل الدعاء
من أعظم الأسباب الجالبة للخير، المانعة من الشر.
منها: قراءة القرآن بتدبُّر؛ فالله – تعالى – يقول: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]،، والله أعلم
Source link