منذ حوالي ساعة
إنَّ الإسراء والمعراج ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير}
فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه حيثُ جعلَكُم خيرَ أُمَّةٍ أُخرجت للناس، وفضَّل نبيَّكُم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بخصائصَ لم يَنَلْهَا أَحَدٌ مِن البَشَر، ومِن أعظمها: الإسراءُ والْمِعْراجُ، فقد رُويَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانَ في الحَطيمِ عند البيتِ مُضطجعاً بين النائمِ واليقظانِ، إذ أتاهُ جبريلُ عليه السلامُ فَشَقَّ مِن ثُغْرَةِ نَحْرِه إلى شِعْرَتِهِ فاستخرجَ قَلْبهُ فَغَسَلَهُ بماءِ زمزمَ بيدِه، حتى أنقى جَوْفَهُ، ثمَّ أُتِيَ بطَسْتٍ مِن ذهَبٍ مملوءةً إيماناً وحكمةً، ثم حَشَا بها قلبهُ ثم أعادَهُ وأطبَقَ صدْرَه، ثم أُتيَ بالبُراقِ دابَّةٌ فوقَ الحِمارِ ودُونَ البَغْلِ، أبيض، طويلَ الظهرِ ممدودٌ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِند أَقْصَى طَرْفِه، مُسْرَجاً مُلْجَماً، فلمَّا أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلَّمَ رُكُوبَه استصعَبَ عليهِ، فقال له جبريلُ: ما يَحْمِلُكَ على هذا؟ فَوَاللهِ ما رَكِبَكَ أَحَدٌ قَطُّ أَكْرَمُ على اللهِ مِنْهُ، فَارْفَضَّ عَرَقَاً، فسارَ بالنبيِّ صلى الله عليهِ وسلَّمَ حتى وصَلَ بيتَ الْمَقْدِسِ، فَخَرَقَ جِبْرِيلُ الصَّخْرَةَ بإِصْبَعِهِ وَشَدَّ بها الْبُرَاقَ، ورَبَطَه بالحَلَقَةِ التي يَرْبطُ بها الأنبياءُ، ثم دَخَلَ المسجدَ فصلَّى فيه ركعتينِ، ثم انطَلَق به جبريلُ، حتى أتى السماءَ الدُّنيا، فاستفتحَ جبريلُ، فقيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن مَعَكَ؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعمَ المجيءُ جاءَ، فَفَتَحَ، فلَمَّا خَلَصَ إليها فإذا فيها آدمُ عليهِ السلامُ، فقال له جبريلُ: هذا أبُوكَ آدمُ فَسَلِّم عليهِ، فسَلَّمَ عليهِ فرَدَّ السلامَ، وقال: مَرْحَباً بالابنِ الصالِحِ والنبيِّ الصالِحِ، ودَعَا لهُ بخيرٍ، ورأى على يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وعلى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إذا نَظَرَ إلى يَمينهِ ضَحِكَ، وإذا نَظَرَ قِبَلَ يَسارهِ بكَى، فأخبره جبريل أن هذه الأسودة نَسَمُ بنيهِ، فأهلُ اليمينِ منهم أهلُ الجنةِ، والأسودةُ التي عن شمالهِ أهلُ النار، ثم عُرِجَ به إلى السماء الثانيةِ فوجدَ فيها يَحْيَى وعِيسَى عليهما السلامُ وهُمَا ابْنَا خَالَةٍ، ثم عُرِجَ به إلى السماءِ الثالثةِ فَوَجَد فيها يوسف، ثم عُرِجَ به إلى السماءِ الرابعةِ فوَجَد فيها إدريس عليه السلام، ثم عُرِجَ به إلى السماءِ الخامسةِ فوَجَد فيها هارون عليه السلام، ثم عُرِجَ به إلى السماءِ السادسةِ فوجد فيها موسى عليه السلامُ، ثم عُرِجَ به إلى السماءِ السابعةِ فوجدَ فيها إبراهيم عليه السلام، وما مَرَّ على ملأٍ من الملائكةِ إلاَّ أَمَرُوه أنْ مُرْ أُمَّتَكَ بالحِجامةِ، ثم ذهب إلى سدرة المنتهى، إليها ينتهي ما يُعرَجُ به من الأرض فيُقبضُ فيها، وإليها ينتهي ما يُهبطُ به مِن فوقها فيُقبضُ منها، وهُناك رأى جبريل على صورتهِ التي خُلقَ عليها له سِتُّمائةِ جَناحٍ، كلُّ جناحٍ منها قد سَدَّ الأُفُقَ يُنْثَرُ مِنْ رِيشِهِ تَهَاوِيلَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم: 13 – 18]، ورأى أربعةَ أنهارٍ، ثمَّ أُدخلَ الجنةَ وسَمِعَ فيها صوتَ بلالٍ رضي الله عنه، ثمَّ رأى الكوثرَ الذي خبَّأه له ربُّه، ثمّ أُتيَ بإناءٍ مِن خَمْرٍ ولَبَنٍ وعَسَلٍ فاختارَ اللَّبَنَ، وأَتَتْ عليهِ رائحةٌ طيِّبةٌ فقال جبريلُ: هذهِ رائِحَةُ ماشِطَةِ ابنةِ فِرعَوْنَ وأولادِها، ومَرَّ بالْمَلإِ الأعلَى وجِبْرِيلُ كالْحِلْسِ البَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ورأى عاقرَ الناقةِ في نارِ جهَنَّم، ومَرَّ بقَوْمٍ لَهُم أظفارٌ مِن نُحاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُم وصُدُورَهُمْ، فقالَ: {مَن هؤلاءِ يا جبرِيلُ} ؟ قالَ: هَؤُلاءِ الذينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ويَقَعُونَ في أعراضِهِم، ومَرَّ بخُطباءَ مِن أُمتهِ تُقْرَضُ شِفاهُهُم بِمَقَارِيضَ مِن نارٍ لأمرِهِمُ الناسَ بالبرِّ ونسيانِ أنفُسِهم، وعُرِجَ بهِ حتى ظهرَ لمستوىً يَسمعُ فيه صَريفَ الأقلامِ، فأوحى اللهُ إليه ما أوحى، وأُعطيَ صلى الله عليه وسلم ثلاثاً لَم يُعْطَهُنَّ نبيَّاً قبلَه، أُعْطِيَ الصلَواتِ الخَمْسَ، وأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سورةِ البَقَرَةِ، وغُفِرَ لِمَنْ لا يُشْرِكُ باللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيئاً الْمُقْحِمَاتُ، ثمَّ هبطَ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، فإذا بالأنبياءِ قد جُمعُوا له في المسجد، فإذا إبراهيم عليه السلام قائمٌ يُصلِّي شيخٌ جليلٌ مهيبٌ هو أشبهُ الناسِ بهِ، فقالَ: يا محمدُ، أَقْرِأْ أُمَّتَكَ مِنِّي السلامَ، وأَخْبِرْهُم أنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وأَنَّها قِيعَانٌ، وغِرَاسُهَا: سُبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلَهَ إلا اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ، وتذاكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع إبراهيم وموسى وعيسى أمرَ الساعةِ، ثم حانت الصلاةُ فصلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إماماً بجميع الأنبياء عليهم السلامُ، فلَّما فَرغَ من الصلاةِ أُتيَ بإناءِ لَبَنٍ وإناءِ خَمْرٍ فَشَرِبَ اللَّبَن، وقال قائل: يا محمدُ هذا مالك صاحب النار فسلِّم عليه، فالتفتَ إليه فبدأه بالسلامِ، ورأى الدَّجالَ رُؤيا عَيْنٍ، ورأى عموداً أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة، وقالوا: عمودُ الإسلامِ أُمرنا أن نَضَعَهُ بالشامِ، ومَرَّ بعيرٍ لقريشٍ، وعادَ إلى مكة، فكذَّبَه الناس، وارتدَّ بعضهم، وطَلَبَ بعضُهم: أن يَنعَتَ لهم بيت المقدسِ، فجَلَّى اللهُ له بيتَ المقدسِ فنعَتَهُ لهم، فقالوا: أمَّا النعت فو الله لقد أصابَ، وسألوه عن عِيرٍ لهم فأخبَرَهم خَبَرها، فكان كما أخبر، وسَعَى أُناسٌ إلى أبي بكرٍ فقالوا: يزعم صاحبُكَ أنه أُسريَ به الليلة إلى بيتِ المقدسِ، فقال: لئن كان قال ذلك لقد صَدَق، إنِّي لأُصَدِّقُهُ بما هُوَ أبْعَدُ مِن ذلكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّماءِ في غَدْوَةٍ أوْ رَوْحَةٍ، فَسُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ مِن يَوْمِئِذٍ، رضي الله عنه.
أمَّا بعدُ: فنستفيد من هذه الآية العظيمة (الإسراء والمعراج) مسائل عقديَّة منها:
أولاً: إنَّ الإسراء والمعراج ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1].
ثانياً: دلَّت حادثةٌ الإسراءِ والمعراجِ على إثباتِ صِفةِ العُلُوِّ لله تعالى، وقد دلَّ على ذلك الكتابُ والسُّنةُ والإجماعُ والعقلُ والفطرةُ.
ثالثاً: قالت اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة: (مَن أنكرَ الإسراءَ والمعراجَ فقد كَفَرَ بما أُنزلَ على محمد صلى الله عليه وسلم، وكذَّبَهُ فيما جاءَ به) (انتهى).
رابعاً: إنَّه لم يَثبت تعيينُ تِلكَ الليلةِ التي وقَعَ فيها الإسراءُ والمعراج ولا شَهْرُها ولا سَنَتُها، قال الإمامُ ابنُ تيمية: (إنَّ المعراجَ كان بمكةَ قبلَ الهِجْرةِ بإجماعِ الناس)، وقال: (لم يَقُمْ دليلٌ معلُومٌ لا على شَهْرِها ولا عَشْرِهَا ولا عَيْنِها، بلِ النُّقُولُ في ذلكَ مُنْقَطِعَةٌ ليسَ فيها ما يُقْطَعُ به) انتهى، وقال أبو شامة: (وذكرَ بعضُ القُصَّاصِ أن الإسراءَ كان في رَجَبٍ، وذلكَ عندَ أهلِ التعديلِ والْجَرْحِ عينُ الكذب) انتهى.
خامساً: إنَّ الإسراء والمعراج كان برُوحِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وجَسَدِه، يَقَظَةً لا مَنَاماً، مرَّةً واحدةً، كما جاءت بذلك الأدلة الشرعية.
سادساً: لم يصحَّ عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا بالإسراء الرُّوحي أو المنامي.
سابعاً: دلَّت حادثةُ الإسراءِ والمعراجِ على إثبات صِفة الكلامِ لله تعالى، وهي صِفَةٌ ثابتةٌ بالكتابِ والسُّنةِ والإجماع.
ثامناً: دلَّت حادثةُ الإسراءِ والمعراجِ على فضلِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على سائرِ الأنبياءِ.
تاسعاً: دلَّت حادثةُ الإسراءِ والمعراجِ على الحياةِ البرزخيَّة للأنبياءِ وغيرهم.
عاشراً: دلَّت حادثةُ الإسراءِ والمعراجِ على إثبات عذابِ القبرِ ونعيمهِ.
الحادي عشر: دلَّت حادثةُ الإسراءِ والمعراجِ على إثباتِ وجودِ الجنةِ والنَّارِ الآنِ.
الثاني عشر: دلَّت حادثةُ الإسراءِ والمعراجِ على ذِكْرِ بعضِ أشراطِ الساعة.
الثالث عشر: لقد اهتمَّ عُلَمَاءُ السَّلفِ بمرويَّات الإسراء والمعراج واستدلُّوا بها على مسائلِ التوحيد.
الرابع عشر: إنَّ الاحتفالَ بالإسراءِ والمعراجِ في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ مِن رَجَبٍ، أو تخصيصها بشيءٍ مِن العباداتِ هو مِن البدع الْمُحْدَثةِ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلكَ ولَمْ يَشْرَعْهُ لأُمَّتهِ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا يُعرَفُ عن أحَدٍ منَ المسلمينَ أنهُ جَعَلَ لليلَةِ الإسراءِ فضيلَةً على غيرِها.. ولا كانَ الصحابةُ والتابعُونَ لهم بإحسانٍ يَقصِدُونَ تخصيصَ ليلَةَ الإسراءِ بأَمْرٍ مِن الأمُورِ) انتهى، إلى غير ذلك مِن مسائل العقيدة المتعلقة بالإسراء والمعراج، والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
___________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
Source link