حياتنا واللحظة الفارقة – طريق الإسلام

ينبغي على كل واحد منا أن يحرص على وقته، على دقائق أيامه ولياليه، أن يجعل وقته عامرًا بطاعة الله، مشغولًا بما ينفع دينه وبلاده وإخوانه، صالحًا مصلحًا، يعمر الأرض بما ينفع الناس لعمارتها حتى بعد موته

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا، ﴿  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}  ﴾ [آل عمران: 102]؛ أما بعد عباد الله:

 

فقد استوقفتني قصةٌ ذَكَرَها أحدُ الكتَّاب، وتداولتها بعض وسائل التواصل في الأيام الماضية، ومختصرها عن اللحظة المقبلة بصمت؛ يقول كاتبها:

بالأمس عدت من سفر بالسيارة، وعلى الطريق السريع المقابل ألمح سيارة قد انقلبت وأُعيدت لحالها، وبجوارها جثة مغطاة وسيارةُ مرور، مَضيتُ سريعًا وأنا أفكر كيف تنتهي الحياة ببساطة بلا مقدمات؟

 

هذا الجثمان المسجَّى كان قبل دقائق خلف مِقْوَدِ سيارته:

– ما الذي كان يفكر فيه؟

– هل كان مهمومًا من دراسته، أو من ديونه، أو من مشاكل عائلته؟

– هل كان مسرورًا؟

– هل كان على موعد مع الرفاق؟

– أين وصلت آخر أحلامه وأشواقه؟

– هل هو غاضب من أحد؟

– هل كان قلِقًا من شيء؟

– هل يفكر في والد ووالدة أو زوجة أو ولد؟

– هل يشغله فاتورة كهرباء أو صيانة سيارة؟

– هل عنده اختبار بعد شهرين؟

– أو موعد بعد ستة أشهر؟

– هل عنده مقابلة شخصية؟

– هل خطر بباله أن أجَلَهُ يرصده هنا؟

– هل هذا المكان يعرفه من قبل، أم مرَّ به لأول مرة؟

 

– هل مرَّ بخياله أنه بعد دقائق سيغادر كل هذا العالم، وأنه سيُغلق كل الأبواب، وأنه سيُقذَف خلف أسوار هذه الدنيا بكل تفاصيلها، بكل أحلامها وزينتها ومشكلاتها، وأنه فجأة لن يكون له علاقة بأي شيء، سيعذره القريب والبعيد، لن ينتظره أحد ليأتي بشيء أو يحل مشكلة؟

 

ما الذي كان يطيف به قبيل اللحظة الفارقة التي انتزعته من ذلك كله إلى عالم جديد؟

 

إيهٍ… أيتها اللحظة المُقبلة بصمت، أين سيكون اللقاء؟ أيتها اللحظة، أين المكان؟ أين الزمان؟ في البيت أو قارعة الطريق؟ في الصباح أو المساء؟ في الزحام أم وحدنا؟

 

وتمر السيارات من هنا وهناك، ويمشي الأحياء على جنبات الطريق ليكملوا المشوار حتى اللحظة التي تُقبل بصمتٍ.

 

﴿  {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}  ﴾ [لقمان: 34]، اللهم يا رب حسن الخاتمة.

 

عباد الله، يدور الزمان دورته، وتسير الأيام، وتنسلخ الشهور، وتمر الأعوام، ولا يدري الإنسان ما الله عز وجل قاضٍ فيه، يومٌ يمضي ولا يعود، ويومٌ يُقبِل فينبغي أن يُغتنم، ما من يومٍ يمر على ابن آدم إلا وهو ينادَى: “يا بن آدم أنا يومٌ جديد، وعلى عملك شهيد فاغتنمني، فإذا غربت شمسي فلا أعود إلى يوم القيامة“.

 

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان».

 

ولعلكم تلحظون – يا عباد الله – قلة البركة في أوقاتنا، تلاحظون كيف تنسلخ الشهور والأعوام، ولا يشعر الإنسان ببركتها؟! كيف ودَّعنا رمضان الماضي؟ وها نحن ننتظر رمضان المقبل قريبًا!

 

ألَا تلاحظون وأنتم تسمعون إلى خطبة الجمعة، كيف يمر الأسبوع وما يشعر الإنسان إلا وهو يُفاجأ بيوم الخميس؟ الأسبوع كأنه يومٌ، واليوم كأنه ساعة، فلماذا؟ فلماذا هذا التقارب؟

 

لا بد أن نعلم أن الساعة هي الساعة، وأيامنا هي هي، والشهر هو الشهر بعدد أيامه وساعاته، فلماذا تنسلخ الأيام والشهور ولا نشعر بها؟ السبب هو نزع البركة من الأوقات، وما السبب في ذلك؟ السبب في ذلك هو الذنوب التي هي دمارٌ للشعوب، وما يحصل لها من كروب؛ قال أصدق القائلين سبحانه: ﴿  {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}  ﴾ [الأعراف: 96]، السماء والأرض مليئتان بالبركات والنعم والخيرات، لكن الذنوب هي التي تمحق بركتها، الذنوب هي التي تمحق بركة الحياة، وبركة الأوقات.

 

الواحد منا يريد أن يصِل رَحِمَه، فلا يجد بركة في الوقت، يريد أن يُقيم الليل، لكنه لا يجد بركةً في الوقت، يريد أن يجمع بين الوظيفة والعلم والدعوة، فلا يجد بركةً في الوقت، تريد المرأة أن تربي أولادها، وتقوم بحق زوجها، وما افترضه الله عليها، فلا تجد بركةً في الوقت؛ وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان».

 

ولذا ينبغي على كل واحد منا أن يحرص على وقته، على دقائق أيامه ولياليه، أن يجعل وقته عامرًا بطاعة الله، مشغولًا بما ينفع دينه وبلاده وإخوانه، صالحًا مصلحًا، يعمر الأرض بما ينفع الناس لعمارتها حتى بعد موته؛ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

 

كثيرٌ من الناس يعيش حياته لمصلحة دنياه ونفسه، وبمجرد موته تنتهي مسيرته ومشاريعه، ولا يذكره إلا أقاربه أيامًا أو شهورًا ثم ينطفئ ذكره، كم من إنسان شغل نفسه بمشاريع وتجارة، أو قطع أرحامه وجيرانه؛ بسبب أرض أو مزرعة، أو نازع إخوانه وأخواته بسبب إرثٍ، ثم ما لبِث وتركها وتركته، بل قد تمتد شؤمها على ورَثته، فيتقاطعون ويتدابرون بسبب ما ورِثوه من مُورِّثهم!

 

والبعض من الناس استغل حياته في نفع الناس، وبذل المعروف، وإقامة المشاريع الخيرية، فإذا مات بكت عليه الأمة، وبقِيَت آثاره بعد موته شاهدةً له، وأعماله ينتفع بها القريب والبعيد، فهذا جعل همَّه في حياته تعليمَ الناس وهدايتهم للحق، وذاك جعل شغله الشاغل في عمارة المساجد، والاهتمام بدور العلم والتحفيظ، والدعوة والصدقات الجارية، وذاك بنى وقفًا لليتامى والمساكين، وآخر جعل همَّه في تأليف الكتب، وتدريس الناس، وذاك بذل جاهه وماله في طرق الخير والإصلاح بين الناس، وتاجر جعل من أمواله أسهمًا في طرق البر والخير والصدقة، تاجروا مع الله، فبارك الله تجارتهم مئات السنين والأعوام.

 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعٌ يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته».

 

هؤلاء هم الأحياء وإن كانوا قد ماتوا، ومرت مئات السنوات على موتهم، لكن ذكرهم لن يموت، والذِّكر للإنسان عمرٌ ثانٍ، وشتَّان شتان بين أقوامٍ موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين قومٍ أحياء تموت القلوب بمخالطتهم، فرقٌ بين من عمَّر حياته في نفع المسلمين، وبين من شغل حياته في الفساد والإفساد، واللهو والحرام، والأطم من ذلك من مات وسيئاته جارية عليه بعد موته، والناس ترتكب المعاصي والذنوب من جراء أعماله، والعياذ بالله.

 

ألم تعلم – يا عبدالله – أن كل يومٍ يمر عليك يقربك من الموت منذ خُلقت، وأنت تدري، أو لا تدري؟

 

يقول ابن الجوزي رحمه الله: “يا بن آدم، يا من أيام عمره في حياته معدودة، وجسمه بعد مماته مع دودة، ومع ذلك لجهل الإنسان يفرح بمرور الأيام، وانقضاء الأعوام”.

 

ألم تعلم – يا عبدالله – أن كل يوم يمر عليك، ينهش من جسمك، ويُضعف من قوتك وأنت لا تشعر، ولا تدري؟

 

وما حالك مع الأيام إلا كقطعة الثلج الواقفة تحت حرارة الشمس، كلما طال بقاؤها، تضاءل حجمها، وذهب جِرمها.

 

يقول داود الطائي: “يا بن آدم، فرحت ببلوغ أملك، وإنما بلغته بانقضاء مدة أجَلك، سوَّفت بعملك كأن منفعته لغيرك”.

 

فيا عبدالله، أدرِك ما بقِيَ من عمرك، حاسِب نفسك ما دامت روحك في جسدك، انظر ماذا قدمت لنفسك في صحيفة عملك؟ كم هي الأوقات التي تقضيها في طاعة ربك؟

قل لي بربك كم حظ الصلاة، والعبادة، وقراءة القرآن من وقتك؟! وقارنها بالأوقات التي تُمضيها مع جوَّالك وأصحابك، ومبارياتك ونومك.

 

فانتبه يا عبدالله، انتبه لما بقِيَ من عمرك، عسى الله أن يغفر لك ما مضى من حياتك، إذا غربت عليك شمسُ اليوم، وما قدمت في صحيفتك شيئًا لدينك، وما يفيدك وينفعك، وينفع الناس من أبواب الخير، فابْكِ على هذا اليوم، ابكِ على هذا اليوم الذي ذهب منك، وسيشهد عليك لا لك، فإنه ذهب بذمِّك، لا بمدحك، وسيكون شاهدًا عليك لا لك.

 

فاتقوا الله يا عباد الله، واعمُروا أوقاتكم بذكر الله، وبما يقربكم من الله، وبما ينفعكم في دينكم ودنياكم؛ لتكون شاهدةً لكم لا عليكم.

 

أسأل الله العظيم بمنِّه وكرمه أن يجعل حياتنا وأعمارنا عامرةً بطاعته، وأن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعل لنا في نفع الناس صدقاتٍ جارية، تعود علينا بالأجور المضاعفة بعد موتنا.

 

ثم صلوا وسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اللهم أعز الإسلام…

_____________________________________________
الكاتب: متعب بن علي الأسمري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

تأملات في قوله تعالى:{إِن الذين قالوا ربنا اللَّه ثم استقاموا}

عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه: قلتُ: يا رسول الله، قل لي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *