قتل كعب بن الأشرف – طريق الإسلام

كان كعب بن الأشرف ممن يحرض على قتال المسلمين، ويؤذيهم بأشعاره؛ شتمًا وهجاءً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتشبيبًا بالنساء، فاستفحل شره

قتل كعب بن الأشرف

في ربيع الأول بعد سنتين من الهجرة، وكان كعب بن الأشرف ممن يحرض على قتال المسلمين، ويؤذيهم بأشعاره؛ شتمًا وهجاءً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتشبيبًا بالنساء، فاستفحل شره، وكان يظن أنه آمن في حصنه لا يطوله أحد، قال الواقدي: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام، فيهم أهل الحلقة والحصون، ومنهم حلفاء للحيين جميعًا الأوس والخزرج، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استصلاحهم كلهم وموادعتهم، وكان الرجل يكون مسلمًا وأبوه مشركًا، فكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذًى شديدًا، فأمر الله عز وجل نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم نزل قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]، وفيهم نزل قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]، وتمادى كعبٌ في غيِّه، ولم يردعه وازع من خُلق أو عهد، وزاد ذلك عندما رأى أسرى المشركين مقرنين بالقيود، فبدأ يُظهر عداوته للمسلمين، وينعَى قتلى بدر من المشركين، ثم إنه خرج إلى مكة يواسي المشركين بشعره، ويحضهم على قتال المسلمين ليكون معهم، ونزل بمكة عند أبي وداعة السهمي، فلما هجا المسلمين وبكى قتلى بدر، تصدى له حسان بن ثابت وهجاه وهجا مَن آواه من قريش، فقالت زوجة وداعة: ما لنا ولهذا اليهودي؛ أخرجه من بيننا؛ ألا ترى شعر حسان؟ فأُخرج ونُبذ من مكة خوفًا من هجاء حسان لمن يؤويه، وعاد إلى المدينة، ولما علم بعودته رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  «اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر، وقوله الأشعار»، ثم قال عليه الصلاة والسلام:  «مَن لي بابن الأشرف؛ فقد آذاني»؟، فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله، أنا أقتله، قال:  «فافعل»، ثم مكث أيامًا لا يأكل، فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال له:  «تركتَ الطعام والشراب»؟، فقال ابن مسلمة: يا رسول الله، قلت لك قولًا لا أدري هل أفي لك به أم لا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «عليك الجهد»، شاور سعد بن معاذ في أمره، فاجتمع محمد بن مسلمة ونفر من الأوس منهم عباد بن بشر وأبو نائلة سلكان بن سلامة والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر، فقالوا: يا رسول الله، نحن نقتله، فأْذَنْ لنا فلنقل – في ذم المسلمين ونبيهم – فإنه لا بد لنا منه، قال:  «قولوا»، فخرج أبو نائلة إليه، فلما رآه كعب أنكر شأنه وكاد يذعر، وخاف أن يكون وراءه كمين، فقال أبو نائلة: حدثت لنا حاجة إليك، قال وهو في نادي قومه وجماعتهم: ادن إلي خبِّرْني بحاجتك، وهو متغير اللون مرعوب – فكان محمد بن مسلمة وأبو نائلة أخويه من الرضاعة – فتحدثا ساعة وتناشدا الأشعار، وانبسط كعب وهو يقول بين ذلك: حاجتك! وأبو نائلة يناشده الشعر، فقال كعب: حاجتك، لعلك أن تحب أن يقوم مَن عندنا؟ فلما سمع القوم قاموا، قال أبو نائلة: إني كرهت أن يسمع القوم ذرو – طرفه – كلامنا فيظنون، كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، وحاربتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس وضاع العيال، أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل، فقال كعب: قد والله كنت أحدثك بهذا يا بن سلامة، أن الأمر سيصير إليه، فقال أبو نائلة: ومعي رجال من أصحابي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعامًا أو تمرًا وتحسن في ذلك إلينا، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة، قال كعب: أما إن رفافي تقصف تمرًا من عجوة تغيب فيها الضرس، أما والله ما كنت أحب يا أبا نائلة أن أرى هذه الخَصاصة بك، وإن كنت مِن أكرم الناس عليَّ، أنت أخي، نازعتك الثدي، قال أبو نائلة: اكتم عنا ما حدثتك من ذكر محمد، قال كعب: لا أذكر منه حرفًا، ثم قال: يا أبا نائلة، اصدقني ذات نفسك، ما الذي تريدونه في أمره؟ قال: خِذلانه والتنحي عنه، قال: سررتني يا أبا نائلة، فماذا ترهنوني؛ أبناءكم ونساءكم؟ فقال: لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا، ولكنا نرهنك من الحلقة ما ترضى به، قال كعب: إن في الحلقة لوفاءً – وقد أراد رهن السلاح؛ لكيلا يشك في أمرهم إذا دخلوا ومعهم السلاح – فخرج أبو نائلة من عنده على ميعاد، فأتى أصحابه فأجمعوا أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه وقال لهم:  «امضوا على بركة الله وعونه»، وصلَّوُا العِشاء معه، ثم مشى معهم حتى البقيع، وكانت ليلة مقمرة منتصف ربيع الأول، فأتوه، فناداه أبو نائلة، وكان ابن الأشرف حديث عهد بعُرس، فقالت عروسه: إلى أين؟ قال: ميعاد، إنما أخي أبو نائلة، ثم نزل فاستقبلهم، وتكلموا قليلًا، ثم تمشوا حتى حانت فرصة منه فضربوه بأسيافهم، ثم أجهز عليه محمد بن مسلمة بخَنجر كان معه، فسقط مضرجًا بدمه، وكان قد صاح صيحة أيقظت يهود، فأشعلوا نيران حصونهم، وخلص المسلمون من بينهم حتى انتهوا إلى البقيع، وبشَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، وفي صباح تلك الليلة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «مَن ظفِرْتم به من رجال اليهود فاقتلوه»، فخاف كبارهم أن يُبَيَّتوا كما بُيِّتَ ابنُ الأشرف، فلم يتكلم أحد منهم فيه.

 

وفي رواية: أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا: قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا، قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى، وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان له السيف»، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينه وبينهم كتابًا تحت العذق في دار رملة بنت الحارث.

 

ملاحظات:

• مِن خلال سرد الحدث نجد أن ابن الاشرف كان لا يزال مصرًّا على العداء للإسلام ونبي المسلمين، وأنه سُرَّ لكلام أبي نائلة عندما قال له: ما الذي تريدونه في أمره؟ قال أبو نائلة: خِذلانه والتنحي عنه، قال: سررتني يا أبا نائلة، ولم يصدر عنه خلال الحديث ندم، وكان في ظنه تكوين مجموعة من المنافقين؛ لذلك واعدهم أن يجتمعوا ليلًا، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة اليهود – الذين أتوا يشتكون لمقتله – أن فيكم من هو على شاكلته من العداوة للإسلام، ولكنه مضمرها وغير مظهِرها، ولا هو يحشد ضد المسلمين أو يُذْكي علنًا نار العداء، أو يهجو بالشعر حرائرنا، فإنا لم نتعرض له، لكن مَن فعل فعله وعادانا جِهارًا فسيلقى المصير نفسه.

 

• تبدو مِن هذه الواقعة أخلاق اليهود وخصالهم الدنيئة بشكل جلي، فبالرغم من أنهم سيتعاونون معه ضد النبي صلى الله عليه وسلم فقد طلب منهم ثمن الطعام، وأن يرهنوا لقاء الثمن أبناءهم ونساءهم.

 

• الحذر والحيطة والمبيت في أطم – حصن – للإحساس بالذنب لنقضه العهد، ولو لم ينقض العهد لعاش آمنًا، ولمَا تعرض له أحد.

 

• رغم أن الصحابة قد ترخصوا من النبي صلى الله عليه وسلم بالقول فيه، فإنهم استعملوا التعريض، كان قدوم هذا الرجل علينا، فهو فهمها أنه يعنون محمدًا، لكن تصلح أن تقال لأي رجل قدم عليهم.

 

• أطلَع المنفذون للمهمة القيادةَ على آخر المستجدات، وطلبوا التوجيه والتسديد.

 

• التصفية لأحد رموز الكفر الخطر تحتاج إلى قرار من القيادة التي تدرك أبعاد هذا العمل ونتائجه وتعد له، وبقتله هكذا جنبت الطرفين حربًا تزهق فيها كثير الأرواح.

 

• كتابة وثيقة تفاهم فيها التزام بحدود معينة – هي بلغة اليوم – فيها خط أحمر لا ينبغي تجاوزه، ينظم العلاقة بين سكان المدينة من المسلمين واليهود.

_______________________________________________

الكاتب: د. محمد منير الجنباز


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *