في هذا المقال نقف مع الموانع التي تحول بين المرء وبين الخشوع في الصلاة، حتى يبتعد عنها العبد، وحتى يرِق قلبُه، وتخشَع جوارحُه…”
في هذا المقال نقف مع الموانع التي تحول بين المرء وبين الخشوع في الصلاة، حتى يبتعد عنها العبد، وحتى يرِق قلبُه، وتخشَع جوارحُه، فهنالك كثيرٌ من تلك الموانع الحائلة عن خشوع القلب، وعدم وجود المسلم لذةَ العبادة، فصلاة لا خشوع فيها، لا لذة لها ولا أثر لها في حياة صاحبها، وإليك أخي الحبيب تلك الموانع وكيفية التخلص؛ منها:
أولًا: الصلاة حاقنًا أو حاقبًا أو حازقًا، والصلاة بحضرة الطعام:
من الأمور التي تُبعد العبد وتَشغل البال أن يصلي المرء وهو حاقن أو حاقب أو حازق، والصلاة حاقنًا: بالنون أي بالبول، أو حاقبًا: أي بالغائط، أو حازقًا: أي بالريح.
لقد نهى النبي عن ذلك؛ لأن هذه الأمور الثلاثة تَشغَل الفكر وتشتِّت ذهن العبد، فيَبتعد عن ساحة الخضوع والخشوع بقدر انشغاله بهذه الأشياء؛ عن ابن أبي عتيق قال: تحدثت أنا والقاسم عند عائشة رضي الله عنها حديثًا، وكان القاسم رجلًا لَحَّانة، وكان لأم ولد، فقالت له عائشة: ما لك لا تحدِّث كما يتحدث ابن أخي هذا، أما إني قد علمت من أين أتيتَ، هذا أدَّبته أمه وأنت أدَّبتك أمك، قال: فغضِب القاسم وأضبَّ عليها، فلما رأى مائدة عائشة قد أُتي بها قام، قالت: أين، قال: أُصلي، قالت: اجلِس، قال: إني أُصلي، قالت: اجلِس غُدَرُ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان» [1].
(بحضرة الطعام): أي عند حضور طعام تتوق نفسه إليه؛ أي: لا تقام الصلاة في موضع حضر فيه الطعام، وهو يريد أكله، وهو عام للنفل والفرض والجائع وغيره، وفيه دليلٌ صريح على كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكلَه في الحال لاشتغال القلب به.
(الأخبثان): فاعل يدافع وهو البول والغائط؛ أي: لا صلاة حاصلة للمصلي حالة يدافعه الأخبثان وهو يدافعهما لاشتغال القلب به، وذهاب الخشوع، ويلحق به كل ما هو في معناه مما يشغل القلب ويُذهب كمال الخشوع، وأما الصلاة بحضرة الطعام، ففيها مذاهب؛ منهم مَن ذهب إلى وجوب تقديم الأكل على الصلاة، ومنهم من قال: إنه مندوب، ومن قيَّد ذلك بالحاجة، ومَن لم يقيِّد، ويجيء بعض بيان ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه[2].
وللفقهاء في ذلك تفصيل متى يكره ومتى لا:
توقان الطعام الحاضر أو القريب الحضور؛ أي: اشتهاؤه؛ بحيث يختل الخشوع لو قدَّم الصلاة عليه، ولأمره صلى الله عليه وسلم بتقديم العَشاء على العشاء، ويأكل ما يتوفَّر معه خشوعه، فإن لم يتوفر إلا بالشِّبَع شَبِعَ، ومحل ذلك إن وسعَ الوقت أيضًا وإلا صلى فورًا وجوبًا[3].
ثانيًا: ترك الورع والاشتغال بعلم الكلام:
من موانع الخشوع أكل الحرام والوقوع في الشبهات، وعدم الاحتراز للدين، فالحلال ما حلَّ بيديه وإن كان حرامًا، والحرام ما بعد عنه وإن كان حلالًا؛ إذ كيف يخشع قلب اجترئ على أكل المحرَّمات ومعصية رب الأرض والسماوات، فالحلال أسنان الخشوع.
كان سهل بن عبد الله يقول: غفل في الناس أشياء، فنُزع منهم الخشوع بترْكهم الورع، ويَذهب منهم العلم بإظهار الكلام، ويُضيعون الفرائض باجتهادهم في النوافل، ويَصير نقض العهود وتضييع الأمانة وارتفاعها من بينهم علمًا، ويرفع مِن بين المنسوبين إلى الصلاح في آخر الزمان علمُ الخشية وعلم الورع وعلمُ المراقبة، فيكون بدل علم الخشية وساوس الدنيا، وبدل علم الورع وساوسُ العدو، وبدل علم المراقبة حديث النفس ووساوسها، قيل: ولِمَ ذلك يا أبا محمد؟ قال: يغفل في القراء دعوى التوكل والحب والمقامات، ترى أحدهم يصوم ويصلي عشرين سنة وهو يأكل الربا، ولا يحفظ لسانه من الغيبة، ولا عينه وجوارحه مما نهى الله عنه[4].
ثالثًا: الجدل:
كما يُحرَم الخشوع من كثر كلامه، كذلك يُحرَمه مَن كثُر جدلُه؛ عن الأوزاعي أنه كتب إلى الحكم بن غيلان القيسي: ودَعْ من الجدال ما يَفتن القلب، ويُنبت الضغينة، ويُجفِّي القلب، ويرق الورع في المنطق والفعل… ولْيَعْنِك ما عَنى الصالحين قبلك، فإنه قد أعظمهم ثقلُ الساعة، فجرت على خدودهم من الخشوع دموعهم، وطَووا من خوف على ظمأ مناهلهم… نسأل الله أن يرزُقنا وإياك علمًا نافعًا، وخشوعًا يؤمننا به من الفزع الأكبر.. إنه أرحم الراحمين.. والسلام عليك[5].
رابعًا: أن يصلي وقد غلَبه النُّعاس:
اعلَم علمني الله وإياك أن من موانع حضور القلب في الصلاة حضورَ النوم ومغالبته ومدافعته، فإن ذلك يشغل العبد عن التفكر فيما يقرَأ، والتدبر فيما يقول؛ لذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند مغالبة النوم؛
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ [فِي الصَّلاةِ]، فَلْيَنَمْ، حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ» [6].
يقول ابن بطال – رحمه الله – قال المهلب: قوله صلى الله عليه وسلم: إذا نعس أحدكم فليرقُد، هو في صلاة الليل؛ لأن صلوات الفرض ليست من نهاية الطول، ولا في أوقات النوم، فيَحدُث فيها مثل هذا، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم العلة الموجبة لقطع الصلاة، وذلك أنه خاف عليه إذا غلَب عليه النوم أن يَخلط الاستغفار بالسبِّ، قال المهلب: ومن صار في مثل هذه الحال من ثِقَلِ النوم، فقد انتقض وضوءَه بإجماع، فأشبه من نهاه الله تعالى عن مقاربة الصلاة في حال السُّكر بقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، وقد قال الضحاك في تأويل قوله تعالى: {وَأَنتُمْ سُكَارَى} أنه النوم.
والأكثر أنها نزلت في سكر الخمر، وبين حديث عائشة وحديث أنس في هذا أن المعنى واحد؛ لأن من أراد أن يستغفر ربه فيَسُب نفسَه، فقد حصل من فقْد العقل في منزلة مَن لا يعلم ما يقول من سُكر الخمر التي نهى الله تعالى عن مقاربة الصلاة فيها، ومن كان كذلك فلا تجوز صلاته؛ لأنه فقَد عقلَه الذي خاطب الله أهله بالصلاة والفرائض، ورفع الخطاب بذلك والتكليف عمَّن عدِمه،ودلت الآية على ما دل عليه الحديثان، وهو أنه لا ينبغي للمصلي أن يَقرَب الصلاة مع شاغل له عنها، أو حائل بينه وبينها، لتكون هَمَّه لا همَّ له غيرها، وأن من استثقل نومه فعليه الوضوء، وهذا يدل على أن النوم اليسير بخلاف ذلك.
وأجمع الفقهاء على أن النوم القليل الذي لا يزيل العقل لا يَنقُض الوضوء، إلا المزني وحدَه، فإنه جعل قليل النوم وكثيره حدثًا، وخرَق الإجماع، وكذلك أجمعوا أن نوم المضطجع ينقض الوضوء)[7].
وقد جاء ذكر السبب في ذلك أن عَائِشَة قالت: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُو يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُو رَاقِدٌ، لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ»[8].
يقول بدر الدين العيني رحمه الله: قوله: يستغفر بمعنى يدعو ها هنا، قاله القاضي.
فيه حثٌّ على الإقبال على الصلاة بخشوع، وفراغ قلب ونشاط، وفيه أمر الناعس بالنوم أو نحوه مما يذهب عنه النعاس، وهذا عام في صلاة الفرض والنفل، في الليل والنهار، وهذا مذهب الجمهور، لكن لا يخرج فريضة عن وقتها، قال القاضي: وحمله مالك وجماعة على نفل الليل؛ لأنها محلُّ النوم غالبًا[9].
خامسًا: أن يصلي خلف المتحدث أو (النائم)، فيشغل ذلك خاطره:
عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُصلوا خلف النائم ولا المتحدث[10]؛ لأن المتحدث يُلهي بحديثه والنائم قد يبدو منه ما يلهي» .
قال الخطابي رحمه الله: «أما الصلاة إلى المتحدثين، فقد كرِهها الشافعي وأحمد بن حنبل، وذلك من أجل أن كلامهم يُشغل المصلي عن صلاته» [11].
أما أدلة النهي عن الصلاة خلف النائم، فقد ضعَّفها عددٌ من أهل العلم؛ منهم أبو داود في سننه كتاب الصلاة: تفريع أبواب الوتر: باب الدعاء، وابن حجر في فتح الباري شرح باب الصلاة خلف النائم: كتاب الصلاة.
وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب الصلاة خلف النائم، وساق حديث عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه..، وكرِه مجاهد وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم خشية أن يبدو منه ما يُلهي المصلي عن صلاته..؛ فتح الباري الموضع السابق، فإذا أُمِنَ ذلك فلا تُكره الصلاة خلف النائم، والله أعلم.
سادسًا: الصلاة في قارعة الطريق:
من موانع الخشوع الصلاة في قارعة الطريق أو الأماكن التي يَكثُر فيها المارة، فإن ذلك يُشوش عليه ذهنه، ويُذهب خشوعه، فعلى المصلي أن يبتعد عن كل ما يحول بينه وبين الخشوع في صلاته، وللعلماء في تلك المسألة كلام أسوقه للبيان والإيضاح؛ قال فقهاء الشافعية: فصل: ولا يُصلَّى في قارعة الطريق؛ عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُصلى على قارعة الطريق أو يُضرَبَ الخلاءُ عليها، أو يُبالَ فيها[12]، ولأنه يَمنع الناس من الممر، وينقطع خشوعه بممر الناس، فإن صلى فيه صحَّت صلاته؛ لأن المنع لترك الخشوع، أو لمنع الناس من الطريق، وذلك لا يوجب بُطلان الصلاة[13]، فقالوا: إنه مكروه لأنه يُفقد الخشوع.
سابعًا: أن يكون في ثوبه أو مصلاه صور أو نقوشٌ:
أن يرتدي المرء من الثياب ما يشغل بصرَه، ويصرف قلبه إليه؛ لأن ذلك يشغل بصره، فيُلهيه عن الذكر والتلاوة – وهو ينافي الأدب مع الله وبين يديه – فيفقِد الخشوع، وقد قال الله جل وعلا: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4].
وقال صاحب المهذب: ويُكره أن ينظُر إلى ما يلهيه؛ لِما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه خَميصة[14] ذات أعلام، فلما فرغ قال: أَلْهَتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي الجهم وأْتُوني بأنبِجانيَّته[15][16].
قال ابن بطال رحمه الله: النظر في الصلاة إلى الشيء إذا لم يَقدَح في الركوع والسجود لا يُفسد الصلاة، وإن كان مكروهًا كل ما يَشغل المصلي عن صلاته، ويُلهيه عن الخشوع، فلما شغلته عليه السلام عن بعض خشوعه تشاءَم بها وردها، وقال سفيان بن عيينة: إنما ردَّ رسول الله الخميصة إلى أبى جهم؛ لأنها كانت سبب غفلته وشُغله عن ذكر الله، كما قال: «اخرُجوا عن هذا الوادي الذي أصابكم فيه الغفلة، فإنه وادٍ به شيطان»، قال: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعث إلى غيره بشيء يَكرَهه لنفسه، ألا ترى قوله عليه السلام لعائشة في الضب: «إنا لا نتصدَّق بما لا نأكُل»، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى خلق الله على دفع الوسوسة، ولكن كرِهها لدفع الوسوسة كما قال لعائشة: «أَميطي عنا قِرامَك، فإنه لا تزال تصاويرُه تَعرِض لي في صلاتي»[17].
وفي ردِّه صلى الله عليه وسلم الخميصةَ تنبيهٌ منه وإعلامٌ بأنه يجب على أبي جهم من اجتنابها في الصلاة مثلما وجب على النبي؛ لأن أبا جهم أحرى أن يَعرِض له من الشغل بها أكثرُ مما خشي الرسول، ولم يُرد النبي برد الخميصة عليه منْعه من تملُّكها ولباسها في غير الصلاة، وإنما معناها كمعنى الحُلة التي أهداها لعمر بن الخطاب، وحرَّم عليه لباسَها، وأباح له الانتفاعَ بها وبيعَها.
وفيه دليلٌ على أن الواهب والمُهدي إذا ردَّت عليه هَديَّته من غير أن يكون هو الراجع فيها، فله أن يقبَلها؛ إذ لا عار عليه في قَبولها.
وفيه: أن النبي آنَس أبا جهم عندما ردَّها إليه، بأن سأله ثوبًا مكانها، يُعلمه أنه لم يَرُدَّ عليه هديَّته استخفافًا به، ولا كراهة لكسْبه[18].
[1] رواه مسلم (560)، وأبو داود (89). [2] عون المعبود – (ج 1 / ص 112). [3] المنهج القويم ج1، ص 252, 253. [4] حلية الأولياء ج: 10 ص: 206.
[5] حلية الأولياء ج: 6 ص: 141.
[6] أخرجه أحمد (3/ 100)، ورواه البخاري ح210 والنسائي فى الكبرى؛ (تحفة الأشراف) (953). [7] شرح ابن بطال، (ج 1 / ص 341). [8] أخرجه مالك في الموطأ (93)، والحميدي (185)، وأحمد (6/ 56)، والدارمي (1390)، والبخاري (1/ 63)، ومسلم (2/ 190)، وأبو داود (13100)، وابن ماجه (1370). [9] شرح أبي داود للعيني، (ج 5 / ص 217). [10] أخرجه أبو داود رقم 694 وهو في صحيح الجامع رقم 375، وقال: حديث حسن، (1/32)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار ح 1127، والنووي في خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام، (ج 1 / ص 527). [11] عون المعبود 2/ 388. [12] أخرجه ابن ماجه، ح رواه ابن ماجه (ح/330) والطبراني (12/ 281)؛ قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في الزوائد: إسناده ضعيف، ولكن المتن له شواهد صحيحة، وكذا ضعفه الشيخ الألباني؛ انظر: ضعيف ابن ماجه (ح/72) والإرواء (1/ 101-102،319). [13] المهذب ج: 1 ص: 64. [14] الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام. [15] الأنبجانية: كساء يتخذ من الصوف وهو من أدون الثياب الغليظة، منسوب إلى موضع اسمه أنبجان. [16] المهذب ج: 1 ص: 88. [17] أخرجه أحمد (3/ 151)، و«البخاري » (1/ 105). [18] شرح ابن بطال لصحيح البخاري.Source link