طلب العلم وتعليمه عند وقوع النوازل بالمسلمين – محمد بن علي بن جميل المطري

من أسباب نصر المسلمين طلب العلم النافع، والدعوة إلى الله على بصيرة، وتعليم العلم ونشره، والحرص على ما يؤلِّف بين قلوب المسلمين على الحق

 من أسباب نصر المسلمين طلب العلم النافع، والدعوة إلى الله على بصيرة، وتعليم العلم ونشره، والحرص على ما يؤلِّف بين قلوب المسلمين على الحق، ويجمع شملهم، ويدفع الشر عنهم، ومن الجهاد إقامة الدين، وكشف شبهات الزائغين، وبيان انحراف المبطلين، والتحذير من المنافقين، والتحذير من موالاة الكافرين، والله سبحانه يقول: { {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}} [محمد: 7]، ومن نصر الله إقامة دينه بالعلم النافع، والعمل الصالح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكلُ مسلمٍ مسئول عن الأمة، ويَعنيه ما يصيبها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))» ، وعلى العلماء وطلاب العلم والدعاة الاهتمام بتنمية الشعور بالمسئولية بين أفراد المسلمين، وبيان أسباب النصر والتمكين التي ذكرها الله في كتابه العظيم، وبيَّنها رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته القولية والفعلية وسيرته المباركة، ومن ذلك ترك التنازع والاختلاف، وسعة الصدر في مسائل الاجتهاد، وكلٌّ في ثغر فليقم بما يجب عليه بقدر استطاعته، بحسب الحال والمقام، ويختلف ذلك بحسب المكان والإمكان، والله يبتلي العباد بما يشاء لينظر كيف يعملون، {{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}} [محمد: 4]، فَمِن الناس من يتيسر له الجهاد بالقتال بنفسه، ومنهم من يتيسر له الجهاد بماله، ومنهم من يتيسر له الجهاد بتعليم العلم وتعليمه، ومنهم من يتيسر له الجهاد بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: {{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}} [التوبة: 122].

والناظر في تاريخ الإسلام والمسلمين يجد أن العلماء وطلاب العلم لم يكونوا يتركون طلب العلم وتعليمه والدعوة إلى الله حين تقع النوازل العظيمة، ولا نعلم أحدًا كان يعاتبهم على طلب العلم وتعليمه ونشره، مهما كانت النازلة شديدة، فمثلًا حين احتل الصليبيون سواحل الشام آخر القرن الخامس الهجري، وقتلوا آلاف المسلمين في مدينة القدس سنة ٤٩٢ للهجرة، واستمروا محتلين القدس نحو ٩٠ سنة، واستمروا محتلين بعض مدن الشام الساحلية نحو مائتي عام؛ لم يترك العلماء التدريس والتأليف، ولم يترك الطلاب التعلم خلال هذه الفترة، بل نشأ في هذه الفترة المليئة بالنوازل والشدائد علماء كبار كان لهم أثر عظيم في الأمة الإسلامية، وأَثْروا العلم بتآليفهم النافعة، منهم أبو حامد الغزالي مؤلف كتاب المستصفى في علم الأصول وكتابي الوسيط والوجيز في الفقه الشافعي وكتاب فضائح الباطنية وغير ذلك، والبغوي مؤلف التفسير المشهور وكتاب شرح السنة، والطرطوشي مؤلف كتاب الحوادث والبدع وكتاب سراج الملوك، وابن عطية الأندلسي صاحب التفسير المشهور، وأبو بكر بن العربي المالكي مؤلف كتاب أحكام القرآن وكتاب العواصم من القواصم وشرح سنن الترمذي وشرح موطأ مالك، والقاضي عياض المالكي مؤلف كتاب الشفا في التعريف بحقوق المصطفى وشرح صحيح مسلم، وابن أبي الخير العِمراني اليماني مؤلف كتاب البيان في الفقه الشافعي وكتاب الانتصار في الرد على المعتزلة الأشرار، والوزير ابن هُبيرة الحنبلي مؤلف كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح، والشريف الإدريسي الجغرافي مؤلف كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، والمؤرخ السمعاني مؤلف كتاب الأنساب المطبوع في 13 مجلدًا، والمؤرخ الحافظ ابن عساكر مؤلف كتاب تاريخ دمشق المطبوع في ٧٤ مجلدًا، والقاسم الشاطبي صاحب المنظومة الشاطبية في القراءات السبع، وأبو شجاع مؤلف متن أبي شجاع في الفقه الشافعي، والمرغيناني مؤلف كتاب بداية المبتدي في الفقه الحنفي وكتاب الهداية في شرح البداية، وأبو الفرج ابن الجوزي صاحب المؤلفات الكثيرة المتنوعة البالغ عددها المئات، وابن الأثير مؤلف كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول وكتاب النهاية في غريب الحديث والأثر، والحافظ عبد الغني المقدسي مؤلف كتاب متن عمدة الأحكام وكتاب الكمال في أسماء الرجال، والفقيه ابن قدامة المقدسي مؤلف كتاب المغني في الفقه ولمعة الاعتقاد وذم التأويل وإثبات صفة العلو وغيرها من المؤلفات النافعة، والمؤرخ الجغرافي ياقوت الحموي مؤلف كتاب معجم البلدان وكتاب معجم الأدباء، كل منهما مطبوع في 7 مجلدات، وأبو عمرو بن الصلاح مؤلف المقدمة في علوم الحديث، ثم حصلت نوازل عظيمة بسبب التتار الذين جاءوا من المشرق، ودمروا البلاد، وأهلكوا العباد، واحتلوا بغداد سنة 656 هـ، ولم يترك العلماءُ والطلابُ تعليم العلم وتعلمه مع كثرة النوازل في ذلك الزمان من الشرق والغرب، وشارك كثير منهم في معركة عين جالوت سنة 658 هـ التي هزم المسلمون فيها التتار، وكان من العلماء الذين نشأوا وتعلموا في فترة الصليبيين والتتار العز بن عبد السلام مؤلف كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وأبو العباس القُرطبي ثم المصري مؤلف كتاب الجامع في أحكام القرآن المطبوع في 20 مجلدًا، والعلامة النحوي ابن مالك مؤلف المنظومة المشهورة في النحو وغيرها من كتب النحو واللغة القيمة النافعة، والعلامة النووي مؤلف الكتب الكثيرة المباركة، والعلامة ابن تيمية صاحب المؤلفات الكثيرة المباركة والمواقف المشهودة.

وحين تيسر الجهاد لبعض العلماء تحت راية واضحة وأمير مطاع جاهدوا هم وطلابهم كابن عطية في بلاد الأندلس والحافظ عبد الغني والفقيه ابن قدامة المقدسيان اللذان كانا في جيش صلاح الدين الأيوبي كما قال ابن كثير في البداية والنهاية: “كانوا لا ينقطعون عن غَزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح القدس الشريف وغيرها”، وكان كثيرٌ من جيش صلاح الدين من طلاب العلم الذين تعلموا في المساجد والمدارس المنتشرة في عهده أو ممن تأثروا بتوجيهات العلماء وخطبهم وكتاباتهم وإن لم يكونوا طلاب علم، ثم كان للعز ابن عبد السلام دور عظيم في جهاد التتار، ثم حرر المسلمون مدينة عكا من الصليبيين بقيادة الأشرف خليل بن قلاوون، وتم تطهير جميع سواحل الشام من الصليبيين بمشاركة الفقهاء وطلاب العلم والعامة سنة 690 هـ، ثم كان لابن تيمية دور عظيم في جهاد التتار، وانتصر المسلمون عليهم في معركة شَقْحَب سنة 702 للهجرة التي شارك فيها ابن تيمية وغيره من العلماء وطلاب العلم من بلاد مصر والشام، وانكسر بعدها التتار، وكفى الله شرهم عن العباد.

وبهذا يتبين أنه ليس من الحكمة في شيء ترك طلب العلم وتعليمه عند وقوع النوازل بالمسلمين، فالعلم لا يُترك في أي حال من الأحوال، وطلب العلم من المهد إلى اللحد، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة من بعده يُعلِّمون الناس العلم النافع في جميع أحوالهم بحسب المقام، في الحضر والسفر، وفي الأمن والخوف، وفي الرخاء والشدة، ولم يجعلوا النوازل مانعةً لهم من تعلم العلم النافع وتعليمه والدعوة إلى الله، والله الموفق.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

إياك أن تهمك نفسك .. !!

منذ حوالي ساعة تأملوا في قول الله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} إنها صفة المنافقين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *