{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ.. (159)}
{بسم الله الرحمن الرحيم }
يقول تعالى في سورة آل عمران:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ.. (159)}
{{فَبِمَا رَحْمَةٍ}} فبرحمة من الله، الباء للسببيه و (ما) صلة دخلت لحسن النظم وزيادة المعنى وتأكيده وتقويته، أي: رحمة عظيمة فياضة، أفاضها المولى العلي القدير.
ومثل هذا في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى: {{فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ}} [النساء: ١٥٥] أي فبنقضهم ميثاقهم، ومنه قوله تعالى: {{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}} [المؤمنون:٤٠] أي عن قليل.
والتنوين للتفخيم، أي: ما لنت هذا اللين الخارق للعادة، مع ما سبّب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة، لاسيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به، إلا بسبب رحمة عظيمة.
وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي، أي: برحمة من الله لا بغير ذلك من أحوالهم، وهذا القصر مفيد التعريض بأن أحوالهم كانت مستوجبة الغلظة عليهم، ولكن الله ألان خُلق رسوله رحمة بهم، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمة.
{{مِنَ اللَّهِ}} أسند الرحمة إلى الله عز وجل لأنه المتفضل بها، ولأن إسنادها إليه يفيد عظمتها وأنها رحمة عظيمة.
{{لِنْتَ لَهُمْ}} سهلت لهم أخلاقك، وكثر احتمالك، ولم تسرع إليهم باللوم والعتاب فيما كان منهم يوم أُحُدٍ، وللمؤمنين عموماً كما قال تعالى: {{بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}} [التوبة:128].
ودل الفعل الماضي في قوله: { {لنت}} على أن ذلك وصف تقرر وعُرف في خلقه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأن فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خلقه كذلك.
فلقد أرسل محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مفطورا على الرحمة، فكان رحمة من الله بالأمة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها، فلذلك جعل لينه مصاحبا لرحمة من الله أودعها الله فيه، إذ هو بعث للناس كافة، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أول شيء لحكمة أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هم مبلغ الشريعة للعالم.
والعرب أمة عرفت بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامة الفطرة. وسرعة الفهم، وهم المتلقون الأولون للدين، فلم تكن تليق بهم الشدة والغلظة، ولكنهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم، ليتجنبوا بذلك المكابرة التي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحق.
وورد أن صفح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعفوه ورحمته كان سببا في دخول كثير في الإسلام، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب «الشفاء».
وكان لينه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك كله لينا لا تفريط معه لشيء من مصالحهم، ولا مجاراة لهم في التساهل في أمر الدين، فلذلك كان حقيقا باسم الرحمة.
** وفيه: أنه ينبغي لمن له سيادة في قومه أن يكون ليناً ليتعرض لرحمة الله عز وجل، وأن اللين أولى بكثير من الفظاظة والشدة؛ لأن الله جعله من الرحمة، ولكن الفقهاء رحمهم الله لما ذكروا ما ينبغي للقاضي أن يتأدب به قالوا: “ينبغي أن يكون ليناً من غير ضعف”؛ لأن بعض الناس قد يكون ليناً ويكون بسبب لينه ضعيفاً غير حازم، وهذا نقص في اللين، لكن ينبغي أن يكون ليناً مع الحزم والقوة في موضعها؛ لأن القوة في موضعها حكمة، فاللين إن ضاعت منه الحكمة فهو مذموم، وإن اجتمع مع الحكمة فهو محمود.
{{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا}} جافياً سيء الخلق، والفظاظةُ: الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً، وهو مستعارٌ من الفَظِّ، وهو ماء الكرش، وهو مكروه مستقذر شُربه.
{{غَلِيظَ الْقَلْبِ}} الغلظُ: كبر الإجرام، ثم تجوز به في عدم الشفقة، وكثرة القسوةِ في القلب فيكون قاسيا لا يرحم ولا يُنزل الناس منازلهم.
ولذلك قالت جواري الأنصار لعمر حين انتهرهن: “أنت أفظ وأغلظ من رسول الله” يردن أنت فظ وغليظ دون رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: (مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ).
وقدمت الفظاظةُ رغم أنها تنشأُ عن الغلظة، لتقُدِّم ما هو ظاهر للحس على ما خافٍ في القلب.. وجمع بينهما تأكيداً.
{ {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}} لنفروا وتفرقوا عنك، وأصل الفض تفرُّق الأجزاء وانتشارها، ومنه فضَّ ختم الكتاب، ثم استُعِير منه انفضاض الناس، قال تعالى: {{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا}} [الجمعة:11] ومنه قولهم: لا فض فوك.
وذلك أن المقصود من البعثة أن يبلِّغ الرسولُ تكاليفَ اللهِ تعالى إلى الخَلْق، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه، وسكون نفوسهم لديه، وهذا المقصودُ لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم، كريماً، يتجاوز عن ذنوبهم، ويعفو عن سيئاتهم، ويخصهم بالبرِّ والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسولُ مُبَرَّءاً عن سوء الخلق، وغِلْظة القلبِ، ويكون كثير الميلِ إلى إعانة الضعفاء، وكثير القيام بإعانة الفقراء.
قال في زهرة التفاسير: “والفظاظة خشونة المظهر، والعشرة السيئة، وسوء القول، وتجهُّم الوجه.. وغلظ القلب قسوته، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نبيه الغلظة في المظهر والباطن، فالغلظة في المظهر هي الفظاظة، والغلظة في الباطن قسوة القلب وكلا الوضعين من شأنه أن ينفر، ولقد قال الله تعالى في وصف نبيه: {{لَقَدْ جَاءَكمْ رَسولٌ منْ أَنفسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحِيمٌ} } [التوبة:128].
وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باشًّا لطيف المعشر متسامحا رحيما لَا يقسو ولا يُعنِّت أحدا ولا يغضب ولا يسْب، وما ضرب أحدا بيده قط، وكان سهلا في معاملاته متسامحا، وكان طلق الوجه دائما، رآه أعرابي، فاسترعاه بشاشته وطلق محياه فقال له: أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب؟! والله ما هذا الوجه بوجه كذاب!. وأسلم إذ دعاه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-“.
وفي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ: { {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}} [الأحزاب:45] قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا.
** وفيه: بيان مضار الفظاظة والغلظة، وأن من أعظم مضارها نفور الناس عن الإنسان إذا كان فظاً غليظ القلب. هذا مع أنهم يرجون من قربهم من الرسول عليه الصلاة والسلام ما يرجون، فكيف إذا كان الإنسان لا يرجى منه ما يرجى من الرسول إذا كان فظاً غليظ القلب؟ فالظاهر أنه لا يكفي أن ينفضوا من حوله، فربما رموه بالحجارة؛ لأن الصحابة يرجون من الرسول الخير بقربهم منه، فإذا قدر أنه غليظ القلب ينفضون من حوله فمن سواه من باب أولى.
{{فَاعْفُ عَنْهُمْ}} إذا قصروا في حقك، والعفو هو التسامح وعدم المؤاخذة.
وحمل القفَّال هذه الآيةَ على واقعة أُحُد، أي تجاوز عنهم ما أتوا يوم أُحد، حين عادُوا إليك بعد الانهزام.
** وفيه: أنه ينبغي للإنسان أن يعفو عن حقه في معاملة إخوانه؛ لقوله: {{فَاعْفُ عَنْهُمْ} } ولكن هذه الآية مقيدة بما إذا كان العفو إصلاحاً، قيدها قوله تعالى: { {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}} [الشورى:٤٠]، أما إذا كان في العفو زيادة إفساد وطغيان فإن هذه مصلحة تضمنت مفسدة أعظم، مثل: لو كان الجاني معروفاً بالشر والفساد فهل الأولى أن نعفو عنه أو أن نؤاخذه بالذنب؟ الأولى أن نؤاخذه بالذنب.
** والعفو ليس بواجب لأن الله يقول: { {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}} [الشورى:٤١] فمن انتصر لنفسه بعد أن ظلم فليس عليه سبيل لكن الأفضل أن يعفو إذا كان في العفو إصلاح.
{{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}} إذا قصروا في حق الله عز وجل، فالصحابة قد يقصرون في حق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد يقصرون في حق الله.
أما في حق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: {{اعف عنهم} } وما أكثر ما يحصل من جفاة الأعراب أو غيرهم من الكلام المسيء إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولكنه يصبر ويتحمل ويعفو عنهم إلى حد أن رجلاً من الأنصار قال له لما حكم فيه في خصومة بينه وبين الزبير بن العوام قال له: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟ وهذا اتهام فظيع. فالزبير بن العوام أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فقال هذا الرجل الأنصاري -عفا الله عنه- تلك المقولة. وقال له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجل وهو يقسم فيئاً قال: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، وقال له: اعدل.
كل هذه الكلمات كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يصبر ويحتسب الأجر من الله ويعفو حتى أحياناً يأتيه من زوجاته ما يأتيه مما يحصل بسبب الغيرة بين النساء وهو يعفو عنهن.
** وفيه: أن القيادة الحكيمة تكون مع العزيمة رحيمة، ومع استقبال الأحداث بقوة تكون خالية من الفظاظة والقسوة، وتلتزم الصفح عن الخطأ ليعتزموا الصواب، والاستغفار من الذنب لتجدد التوبة.
قال في زهرة التفاسير: “كنت لينا معهم في كل أحوالك، وكنت لينا لهم بعد الأخطاء التي وقعوا فيها، والكارثة التي نتجت عن مخالفتك، فما لمُتَهُم، ولا عنَّفْتَهم بل سكت حيث رأيت ما أصابهم من غم استغرقهم، وحزن استولى عليهم، ولقد شكر الله سبحانه وتعالى لنبيه ذلك اللين؛ إذ لم يؤاخذهم، ولم يفرط في القول معهم؛ لأن اللوم على الماضي يُيئس النفس من غير جدوى، وهو رجعة إلى الوراء، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل أمامه، وبمقدار ما يجنبه خطأ وقع فيه، وبمقدار ما يحفز همة من معه، ويشحذ عزيمتهم، وإن المبالغة في اللوم على ما وقع في الماضي يلقى باليأس، وفي اليأس الهزيمة، واليأس والقنوط إسراف على النفس بالهموم، ولا نجاح لمن في هم دائم، وحزن واصب، فكان لين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معهم في هذه الآلام التي أصابتهم كالبلسم الشافي لأسقامهم، والقائد الماهر الحكيم يجب أن يجمع إلى العزيمة القوية الموجهة إلى العمل البِشْر ولين العريكة، وتسهيل الخروج من أوضار الخطأ، حتى لَا يعنتهم ولا يبهظهم [بهَظَه الحِمل: أثقله وعجز عنه، فهو مبهوظ، وأمر باهظ: أي شاق]، وحسبُهم ما أصابهم، وإن الشدة في مثل هذه الأحوال والغلظة في القول والعمل تنفر ولا تجمِع”.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link