علي بن أبي طالب أبو الحَسَنين – محمد بن علي بن جميل المطري

علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القُرَشي الهاشمي، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشَّرين، وأول السابقين الأولين

 

علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القُرَشي الهاشمي، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشَّرين، وأول السابقين الأولين فيما ذكره محمد بن إسحاق أنه أسلم وعمره 10 سنوات بعد إسلام أم المؤمنين خديجة وقبل إسلام أبي بكر، فعليٌّ أول من أسلم من الغِلمان، فقد كان في صِغَره في كفالة النبي عليه الصلاة والسلام، فنشأ في بيت النبي وفيه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها خيرُ نساء هذه الأمة، وكان عليٌّ في مكة يتعلم من النبي عليه الصلاة والسلام الكتاب والحِكمة، وكان إذا سأل النبيَّ عليه الصلاة والسلام أجابه، وإذا سكت ابتدأه، وهاجر عليٌّ إلى المدينة النبوية بعد خروج النبي عليه الصلاة والسلام من مكة، وأمره بقضاء ديونِه وردِّ ودائِعِه ثم يلحق به، ولازم عليٌّ النبي عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة وبعدها، وكان ممن يكتب للنبي عليه الصلاة والسلام، وزوَّجَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء الأمة، وولِدتْ له الحسن والحسين السِّبطين رضي الله عنهما اللَّذَينِ كان النبي عليه الصلاة والسلام يحبهما، وقال: (( «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» )) كما في صحيح البخاري، وكان بيت عليٍّ قريبًا من بيوت النبي، ودعا له النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة، وبشَّرَه بالجنة، وحين توفي النبي عليه الصلاة والسلام كان عليٌّ ممن تولَّى غَسْلَه وتكفِينه وإدخالَه قبرَه.      

وعليٌّ رضي الله عنه ممن كان يُعلِّم الناس القرآن والسُّنَّة في حياة النبي وبعد موته، وقرأ عليه القرآن جمعٌ من الصحابة والتابعين، من أشهرهم أبو عبد الرحمن السُّلَمي شيخ الإمام عاصم، قال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: (ما رأيت أحدًا أقرأ من عليٍّ)، وقالت عائشة رضي الله عنها: (عليٌّ أعلمُ الناس بالسُّنَّة)، وكان عليٌّ يَقضي بين الناس ويُفتيهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (عليٌّ أقضانا)، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أقضى أهلِ المدينة وأعلَمُهم بالفرائض عليُّ بن أبي طالب)، وقال سعيد بن المسيب: (ما كان أحدٌ من الناس يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه).  

وعليٌّ هو الإمام الرابع بعد الأئمة الثلاثة الخلفاء الراشدين، وهو أكثرهم رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، فعدد أحاديث أبي بكر الصِّدِّيق في مسند أحمد بن حنبل 81 حديثًا، وعدد أحاديث عُمَر 316 حديثًا، وعدد أحاديث عثمان 138 حديثًا، وعدد أحاديث علي بن أبي طالب 819 حديثًا، وهذا عدد أحاديث الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في مسند الإمام أحمد مع المكرَّرات.

قال الحافظ الذهبي: “روى علي بن أبي طالب الكثير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه القرآن وأقرأه، وروى عن علي: أبو بكر، وعمر، وبنوه: الحسن، والحسين، ومحمد، وعمر، وابن عمه ابن عباس، وابن الزبير، وطائفةٌ من الصحابة، وخلقٌ كثيرٌ من التابعين”، قلت: عدد من روى عن علي بن أبي طالب من الصحابة والتابعين 350 راويًا تقريبًا، أسماؤهم مذكورة في كتاب تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ المِزِّي.       

كان علي بن أبي طالب عابدًا خاشعًا، زاهدًا متواضعًا، صابرًا حكيمًا، ودُودًا بشُوشًا مع المؤمنين، شديدًا على الكافرين والمنافقين، وكان من أشجع الصحابة رضي الله عنهم، وهو أحد المبارِزين يوم بدر الذين أنزل الله فيهم: {{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}} [الحج: 19]، وقتل عليٌّ عمرو بنَ عبْدِ وُدٍّ فارسَ قريشٍ في غزوة الخندق، وقتل مَرْحبًا فارس اليهود في غزوة خيبر، وقتل كثيرًا من المشركين المحاربين، وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ من الغزوات، وأبلى بلاء عظيمًا في غزوة بَدرٍ وأُحُدٍ والخندق وخيبر وفتح مكة وحُنَين، وبعثه النبي عليه الصلاة والسلام إلى اليمن داعيًا إلى الله وقاضيًا وأميرًا، واستخلفه على المدينة في غزوة تبوك، روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا، فقال: أَتُخَلِّفُنِي في الصبيان والنساء؟! فقال: ((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟))، قال العلماء: يعني حين استخلف موسى هارون عليهما الصلاة والسلام عندما ذهب إلى الطور كما قال الله تعالى» : {{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}} [الأعراف: 142].

قال البخاري في صحيحه: باب مناقب علي بن أبي طالب القُرَشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ))، وقال عمر: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض)، ثم روى البخاري بإسناده عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ))، فلما أصبح الناس غَدَوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: ((أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟))، فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: ((فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ))، فلما جاء بصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، ففتح الله على يديه، وروى هذا الحديث مسلمٌ في صحيحه في باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا الحديث مشهورٌ رواه عن النبي عليه الصلاة والسلام جمعٌ من الصحابة منهم: أبو هريرة وسَلَمة بن الأَكْوع وسعد بن أبي وقاص وبُرَيدة بن الحُصَيب وعِمران بن الحُصَين وأبو سعيد الخُدْري وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وقد روى علماء الحديث بأسانيدهم كثيرًا من الأحاديث في فضائل عليٍّ خصوصًا، وأهلِ البيت عمومًا، قال أحمد بن حنبل والنسائي: “لم يُرو في فضائل أحدٍ من الصحابة بالأسانيد الحسان ما رُوي في فضائل علي بن أبي طالب”.  

روى الحاكم في المستدرك من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَ عَلِيًّا فَقَدْ أَبْغَضَنِي))، صححه الألباني والوادعي.

وروى مسلم في صحيحه من طريق الأعمش عن عدي بن ثابت عن زِرِّ بن حُبيش عن علي قال: (عَهِد إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن لا يُحِبُّني إلا مؤمن، ولا يُبغِضُني إلا منافق)، ورواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه من طريق عاصمٍ عن زِرٍّ عن علي قال: (لا يُحبنا منافق، ولا يُبغضنا مؤمن)، وله شاهدٌ مرفوعٌ رواه أحمد والترمذي عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: ( «(لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ» ))، وله شاهدان آخران موقوفان، روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد كتاب فضائل الصحابة عن جابر الأنصاري رضي الله عنهما قالا: (كنا نعرف المنافقين ببغضهم عليًا رضي الله عنه)، وهكذا جميع الصحابة رضي الله عنهم لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، روى البخاري ومسلم من طريق شعبة عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (( «الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ» ))، فمن الإيمان حب المؤمنين، وبغض الكافرين والمنافقين، ولا يجوز بغض المؤمنين، لا سيما الصحابة وأهل بيت النبي، روى ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُبْغِضُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ رَجُلٌ إِلَّا أَدْخَلَهُ الله النار» ))، صححه الألباني.   

وروى مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يُدعى خُـمًّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (( «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» ))، قال العلماء: المراد بالتذكير بأهل البيت: الوصيةُ بهم، ومحبتُهم، ومعرفةُ حقهم وفضلهم، وتركُ ظلمهم، وكرَّر ذلك ثلاث مرات زيادة للتأكيد، فهو أمرٌ ثقيلٌ على كثير من المسلمين.

وروى الترمذي في سننه في أول باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه حديث: (( «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» ))، وهو حديث متواتر كما قاله بعض المحدثين كالذهبي والكتَّاني والألباني، قال البيهقي: “لـمَّا بعث النبي عليه الصلاة والسلام عليًّا إلى اليمن مع بعض الصحابة فاشتكوا منه، وأظهروا بُغضه؛ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر اختصاصَه به، ومحبتَه إياه، ويحثهم بذلك على محبته وموالاته، وترك معاداته، والمراد به ولاءُ الإسلام ومودتُه، وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضًا، لا يعادي بعضهم بعضًا”، ويدل على ذلك قوله تعالى: {{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}} [التوبة: 71]، وقوله سبحانه: { {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}} [المائدة: 55]، وهذه الآية عامة في كل مؤمن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، وأول من يدخل في عمومها الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومن الخطأ اعتقاد أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وحده، فقد جاءت الآية بصيغة الجمع، فلم يقُلِ الله: (والذي آمن الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وهو راكع)، وإنما قال: {{وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}} ، ولا يصح ما ذكره بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في علي رضي الله عنه، وأنه تصدق بخاتمه وهو راكع، فهذه الرواية لا تصح كما بيَّن ذلك علماء الحديث، وقد روى شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره بإسناد صحيح عن التابعي الجليل أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه فسر هذه الآية بأنهم جميع الذين آمنوا، فقيل له: بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب، فقال: (عليٌّ من الذين آمنوا)، وبيَّن المفسرون أن قوله تعالى: {{وَهُمْ رَاكِعُونَ}} ثناءٌ على المؤمنين بالركوع، ولا تدل الآية على أنهم يُزكُّون حال ركوعهم، فإنه لا يجوز الانشغال في الصلاة بإخراج الزكاة، ومثل هذه الآية قوله تعالى: { {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}} [آل عمران: 113]، فليس المراد تلاوتهم آيات الله حال السجود، بل هو ثناء عليهم بالسجود.

قال ابن تيمية: “شهد النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه أنه يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه، وهو من كبار السابقين الأوَّلين من المهاجرين، وممن نصر الله الإسلام بجهاده، وموالاةُ علي واجبةٌ على كل مؤمن، وكون عليٍّ مولى كلِّ مؤمن هو وصفٌ ثابت لعليٍّ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وبعد ممات عليٍّ، فعليٌّ اليوم مولى كلِّ مؤمن، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتًا، وأهل السنة متفقون على وجوب موالاة عليٍّ ومحبتِه، وهم من أشد الناس ذَبًّا عنه، ورَدًّا على من طَعَن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب، ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (( «أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» ))، ومحبةُ أهل البيت فرضٌ واجبٌ يُؤجَر عليه المسلم” انتهى كلام ابن تيمية مجموعًا من بعض كتبه.

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الخُطَباء الفُصَحاء البُلَغاء الحُكَماء، ومن أقواله المشهورة التي رواها أهل الحديث بأسانيدهم: «(إنما أخشى عليكم اثنين: طولَ الأمل، واتباعَ الهوى، فإنَّ طول الأمل يُنسي الآخرة، وإنَّ اتباع الهوى يصد عن الحق، وإن الدنيا قد ارتحلت مُدبِرة، والآخرةَ مُقْبِلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل)»

وقال عليٌّ رضي الله عنه: (لا يرجُ عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخَف إلا ذنبه، ولا يستحيي مَن لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحيي عالمٌ إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، واعلموا أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس مِن الجسد، فإذا ذهب الرأسُ ذهب الجسد، وإذا ذهب الصبرُ ذهب الإيمان، ولا إيمان لمن لا صبر له).

وقد كان عليٌّ رضي الله عنه من أعوان الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبله، بايعهم مُقِرًّا بخلافتِهم وإمامتِهم، وكان من وزرائهم ومستشاريهم، وكان ينصح لهم، ويُحبهم ويُجلهم، ويشهد بفضلِهم، وسمى بعض أبنائه بأسمائهم، ولا يجوز اعتقاد أن عليًّا كان الوصي، وأن الصحابة لم يعملوا بوصية النبي، روى البخاري ومسلم عن الأسود بن يزيد النَّخَعي الكوفي قال: ذكروا عند عائشة أن عليًّا كان وصيًّا، فقالت: (متى أوصى إليه وقد كنتُ مُسْنِدَتُه إلى صدري؟!)، تعني أن النبي عليه الصلاة والسلام مات في حُجْرتها، وهي مُسْنِدَةُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام إلى صدرها، فلم تسمعه أوصى بالخلافة لأحد، وروى البخاري ومسلم عن طلحة بن مُصرِّف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: (لا)، وابن أبي أوفى آخر الصحابة موتًا في الكوفة، وهو من أهل بيعة الرِّضوان، قال الحافظ المؤرِّخ ابن كثير: “كان أمير المؤمنين عليٌّ أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان رابع الخلفاء الراشدين، والقول بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى إلى علي بالخلافة كذبٌ وبُهتٌ وافتراءٌ عظيم، يلزم منه تخوين الصحابة”.

ومن الخطأ والضلال دعوى العِصمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودعوى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يَخُصه بشيءٍ من العلم دون غيره من الصحابة، فالنبي بُعِث مُعلِّمًا للناس عامة، وهو رحمة للعالمين، روى مسلم في صحيحه عن أبي الطُّفَيل عامر بن واثِلة قال: كنت عند علي بن أبي طالب فأتاه رجلٌ فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إليك، فغضب عليٌّ وقال: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إليَّ شيئًا يكتمه الناس).

وروى أحمد في مسنده عن الحارث بن سُوَيد قال: قيل لعلي: هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس عامة؟! قال: (ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس).

وروى أبو داود عن قيس بن عُبَاد قال: انطلقت أنا ومالِكٌ الأشتر إلى علي عليه السلام فقلنا: هل عهِد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: (لا).

وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري أنه ذُكِر عنده ما يقوله بعض الناس في علي فقال: (قد جالسناه وواكلناه وشاربناه فما سمعتُه يقول شيئًا مما يقولون، إنما يكفيكم أن تقولوا: ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَخَتَنُهُ، وشَهِد بيعةَ الرِّضْوان، وشهِد بدرًا).

وقد صح عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: (ليُحِبُّني قومٌ حتى يدخلوا النار في حُبِّي، وليُبْغِضُني قومٌ حتى يدخلوا النار في بُغضي)، وقال: (يَهلِك فِيَّ رجلان: مُفرِطٌ في حُبِّي، ومُفرِطٌ في بُغضي)، وقال علقمة النَّخَعي الكوفي: (مثَلُ عليٍّ في هذه الأمة مثَلُ عيسى ابنِ مريم، أحبه قومٌ حتى هلكوا في حبه، وأبغضه قومٌ حتى هلكوا في بغضه).   

تولى عليٌّ الخلافة بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه، وكانت خلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وقعت فيها فتنة كبرى، وأحداثٌ لم يكن يريدها، فقد تخلَّف عن بيعته أهل الشام مطالبين بالقِصاص من قَتَلةِ عثمان الذين بايعوا عليًّا بعد قتل عثمان مع من بايعه من الصحابة والتابعين، وكان بعض أهل الشام يتهم عليًّا بلا بينة بأنه تواطأ مع قَتَلةِ عثمان أو أنه خذله ولم ينصره، وثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: (اللهم إني أبرأُ إليك من دمِ عثمان)، وكان عليٌّ يريد أولًا جمع كلمة المسلمين على الخليفة، ثم بعد ذلك ينظر في أمر قَتَلة عثمان حين يتمكن منهم، فقد كانوا جمعًا كثيرًا من مصر والعراق نحو الألفين، ولم يكن عليٌّ يعلم أعيانهم، وكانوا مختلطين بجيشه، وكانوا أصحاب فتنة، وخَرجَتْ أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة للمطالبة بالقِصاص من قَتَلة عثمان والإصلاح بين الناس، فخرج عليٌّ إلى العراق، وانتهى الأمر بالقتال بين جيش علي وجيش عائشة في معركة الجَمَل سنة 36 للهجرة، وكان الذي أثار القتال قتَلَةُ عثمان الذين كانوا في جيش عليٍّ، وانتصر جيشُ عليٍّ بعد قتالٍ شديدٍ لم يكن يُريدُه عليٌّ ولا عائشة رضي الله عنهما، وقال عليٌّ لابنه الحسن بعد أن رأى كثرة القتلى: (ليت أباك مات منذ عشرين سنة)، فقال له: يا أبه قد كنتُ أنهاك عن هذا، فقال علي: (يا بُني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا!)، وصلَّى عليٌّ على قتلى الفريقين رحمهم الله أجمعين، وثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: (إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47])، ثم وقعت معركة صِفِّين سنة 37 للهجرة بين جيش الخليفةِ عليٍّ وجيش أميرِ الشامِ معاويةَ ابنِ عمِّ عثمان، وكانت من أعنف المعارك التاريخية، ثبت الجيشان ولم يفِر أحدٌ من الآخَر، واستمرَّت عدة أيام، وفي بعض الأيام استمر القتال ليلًا ونهارًا، وكان عليٌّ يقاتل أهل الشام على أنهم بُغاةٌ متأوِّلون لا مرتدون ولا منافقون، فقد أخبر الله سبحانه أن المؤمنين قد يحصل بينهم قتالٌ وبغيٌ وظلمٌ فقال: {{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}} [الحجرات: 9، 10]، وصح عن علي رضي الله عنه أنه سُئل عن أهل الجَمَل فقال: (إخوانُنا بَغوا علينا فقاتلناهم)، وكان عمار بن ياسر رضي الله عنهما في جيش علي، فسمع بعضَ الجيش يُكفِّرون أهل الشام، فقال عمارٌ: (لا تقولوا: كفرَ أهلُ الشام، دينُنا واحد، وقبلتنا واحدة، ودعوتنا واحدة، ولكن قومٌ بغوا علينا فقاتلناهم) رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة، وفي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (( «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ))، وقتل أهلُ الشام عمارًا، وسماهم النبي عليه الصلاة والسلام فئة باغية لا كافرة ولا منافقة، وانتهت معركةُ صِفِّين بالهُدنة والتحكيم حَقْنًا لدماء المسلمين بعد أن قُتِل عشراتُ الآلاف من الفئتين، وكانت فتنة عظيمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون، {{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}} [البقرة: 253]، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ)) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» ))، وتحقق ذلك حين خرج من جيش عليٍّ طائفةٌ مارقةٌ غُلاةٌ جَهَلةٌ كَفَّروا عليًّا ومعاوية وجيشهما، وكان منهم بعض الذين خرجوا على عثمان، وهم أول الخوارج الذين يستحلون قتلَ أهلِ الإسلام، فسفكوا الدم الحرام، فقاتلهم عليٌّ في معركة النَّهْروان سنة 38 للهجرة وانتصر عليهم، وقتل جيشُه أكثرهم، ثم كتب الله لعلي رضي الله عنه الشهادة بيد الشَّقِي عبدِ الرحمن بن مُلْجَم المرادي الكوفي أحد الخوارج، فقتل عليًا في مسجد الكوفة قبل صلاة الفجر في شهر رمضان سنة 40 للهجرة، وعمره 63 عامًا تقريبًا، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن علي بن أبي طالب شهيد، روى مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حِراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ» )).

قال ابن تيمية: “عبد الرحمن بن مُلْجَم من المارقين، قتَلَ أميرَ المؤمنين عليًّا فصار عليٌّ رضي الله عنه إلى كرامة الله ورضوانه شهيدًا، وبايع الصحابةُ للحسن ابنِه، فظهرت فضيلته التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال: (( «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ» ))، فنزل الحسن عن الولاية، وأصلح الله به بين الطائفتين، وكان هذا مما مدحه به النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه، ودل ذلك على أن الإصلاح بينهما مما يحبه الله ورسوله، ويحمده الله ورسوله”.    

ويجب أن نُحسن الظن بالصحابة، فقد زكَّاهم الله في كتابه في آيات كثيرة، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم، ومضاعفة حسناتهم، ولا أحد معصوم من الذنب والخطأ غير الأنبياء، والصحابة بشرٌ يصيبون ويخطئون ويذنبون، وقد وعد الله الذين أنفقوا منهم وجاهدوا بالجنة وإن تأخر إسلامهم إلى بعد فتح مكة، قال الله سبحانه: {{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}} [الحديد: 10]، وأمرنا الله أن نستغفر للمؤمنين ذنوبهم وأخطاءهم، لا أن نطعن فيهم ونسبهم، ولا يجوز الغلو في الصحابة وآل البيت، ولا دعوى العصمة لأحد منهم، ولا التعصب لبعضهم على بعض فيما جرى بينهم، قال الله تعالى: {{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}} [محمد: 19]، وبعد أن ذكر الله المهاجرين والأنصار قال عز وجل: {{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}} {} [الحشر: 10].


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

إياك أن تهمك نفسك .. !!

منذ حوالي ساعة تأملوا في قول الله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} إنها صفة المنافقين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *